ثمّ ماذا؟

ثمّ ماذا؟

08 ديسمبر 2014
+ الخط -
يقفن صفًا واحدًا، كلّ واحدةٍ منهنّ تنظر في اتجاه ما، نظرة مفعمةً بالأسى والحزن والألم، وذاك الشعور المرهف؛ الرجاء. 

في منتصف اللوحة تمامًا رجلٌ وحيدٌ، يرتدي الأسود مثلهنّ، لكنّه لا يرنو لمكان أو جهة، إذ يخفض رأسه في صمتٍ وإطباقٍ وخجل وانكسار بادين على هيئته، ورقبته الملتوية. يداه أيضًا منكسرتان مثل روحه الكسيرة.

وعلى جانبي اللوحة طفلان اثنان متناظران، يطبق أحدهما بكفيه على حمامة بيضاء بحنوٍ ورقّة واضحين. أمّا الطفل الآخر، فيحيط بامرأة ويرفع رأسه صوبها، لعلّها أمّه، لا ترنو إليه لكنها ترنو إلى حزنها. أما هو فيرتسم الرعب على محيّاه. يناظر الطفل إحدى النساء من حيث تضرّع وجهها نحو السماء.

هو الرجاء الذي يحلّ بعد ألم إنساني عظيم، بعد مأساة كبرى. تمثّل هذه اللوحة أيما تمثيل براعة الفنّان السوري المرهف الذي قضى محترقًا في بيته الصغير في حيّ الجميلية في حلب التي تحترق الآن. 

ليس وصف كيالي بالفنّان المرهف، من قبيل رصف الصفّات، إذ يذكر أنور محمّد حادثة سفرهما معًا عام وفاته إلى عمّان، من أجل معرض للوحاته. ما إن اجتازا الحدود، حتّى طلب السوري من صديقه أن يصطحبه لزيارة المخيمات الفلسطينية، فذهبا إلى "مخيّم الحسين"، فما تمالك كيالي نفسه وبكى. ولشدّة الصدمة التي أحدثتها تلك الزيارة عدل الموهوب المرهف عن إقامة معرضه. 

في ذاك الزمان، كانت فلسطين قضيةً قوميةً، وكانت قصّتها مع السوري الوسيم خاصّة. إذ لعلّه في أحد معارضه عام 1967، استشرف النكسة الشهيرة. فقد كان عنوان المعرض صريحًا: "في سبيل القضية". ووقتها لم يكن من "قضية" إلا هي؛ فلسطين. 

جهز كيالي للمعرض ثلاثين لوحةً مرسومةً بالفحم تلخص المأساة الفلسطينية. جالت لوحاته سورية كلّها. ثمّة من أثنى، وثمّة من انتقد قائلًا: كيف لهذا البورجوازي أن يرسم "القضيّة"؟ غامزًا من أن لؤي يريد الشهرة على حساب فلسطين. 

لؤي الذي كانت الطبقة البورجوازية، تشتري لوحاته دائمًا، لكنّه تغيّر وحوّل عنها. فاختار رسم الفقراء والبسطاء والبائعين الجوالين، لا على قماشة مشدودة ومأسسة مثل باقي الفنّانين. بل اختار الرسم على ألواح خشبيّة من نوعٍ خاص. ففي لهجة تلك البلاد التي تحترق، يسمّى هذا الخشب المضغوط من نثارات الخشب: النشارة. 

القصّة ليست في من انتقد ومن أثنى، القصّة في أثر النكسة على لؤي كيالي. كان المعرض قائمًا حين وقعت النكسة. فقام لؤي كيالي بحرق لوحات معرضه "في سبيل القضية"، وأحرق أيضًا كلّ ما كتب عنها. يُقال إن بعض اللوحات سلمت من التلف الكامل. لكن قلب لؤي لم يسلم، أثّرت النكسة فيه، ودخل في أزمةٍ نفسيةٍ لم يشفَ منها أبدًا.

المساهمون