هذه المصطلحات قد تقتصر على مرحلة الأزمة ولا تشكل بالضرورة خياراً فعلياً، وقد تنقلب عليها الحكومة بعد فترة قصيرة لتعود إلى خياراتها القديمة، بل إن المنظمات الاجتماعية تخشى من أن تتحول الحكومة إلى مطالبة العمال والموظفين بتقديم تضحيات جديدة إذا خسرت صراعها مع رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية الكبرى. والوضع الحالي يشكل في كل الحالات خيبة إضافية للأحزاب اليسارية التونسية وغير التونسية، التي ترى شعاراتها متبناة من أحزاب وشخصيات لم تكن أبداً منتمية للعائلة اليسارية، ويستحسنها التونسيون الذين يَرَوْن في عودة الدولة الراعية مسلكاً يمكن أن يوفر المصالحة معها، ولو جزئياً.
ويلفت المحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ الدول الرأسمالية تتطور وتتجدد عبر العصور، لا سيما في الأزمات، وعادة ما تستفيد خلال عملية التجديد من التجارب السابقة ومن الأفكار والنظريات المطروحة، موضحاً أنه منذ أزمة العام 1929 لوحظ هذا التجدد والاستفادة من أفكار اليسار، لا سيما في الجانب الاجتماعي، حيث أن الإجراءات المتخذة كثيراً ما تتكيف مع الوضع. ويشير الحناشي إلى أن "الأفكار موجودة، ولكن الإشكال يكمن دائماً في تطبيقها. وعندما نتحدث عن اليسار، فالمقصود هو اليسار الواسع بمعناه الاجتماعي"، مؤكداً أنه في أزمة كورونا التي تعتبر عميقة، فإن الحكومة لا خيارات أمامها سوى الاستفادة من المضامين المفيدة، معتبراً أنه يصعب في الوقت نفسه تطبيق برامج اليسار بشكل عميق نظراً لارتباطات الحكومة بمؤسسات النقد الدولي والخيارات العالمية المطروحة، وبالتالي فالأزمة قد تقود إلى مراجعات عميقة، اقتصادياً واجتماعياً، إذا حصلت تحولات في النظام الرأسمالي ككل.
ويرى أنّه "بعد أزمة كورونا، ستحصل مراجعات عديدة في أوروبا، حينها قد تتفاعل تونس مع التحولات، ليس قناعة من الحاكمين وإنما للضرورة، لأن الاقتصاد التونسي اقتصاد تبعي". ويشير إلى أنّه يمكن للحكومة، لو كان لديها قناعة بالتقدم بالمجتمع، إعادة النظر في خياراتها عموماً، ومثال ذلك ما ثبت بشأن اعتماد السياحة كقطاع استراتيجي منذ سبعينيات القرن الماضي، في حين أن الأحداث تُبيّن أنه لا يمكن الاعتماد على السياحة كقطاع استراتيجي، لأنه هش ويتأثر بأي متغيرات أو أزمات من أي نوع، وهذا لا يعني طبعاً التخلي عنه، ولكن وجبت مراجعته وتطويره.
من جهته، يرى الأمين العام لـ"الحزب الاشتراكي" (يساري)، محمد الكيلاني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "تطبيق الأفكار والبرامج لا يمكن أن تكون إلا لمن هو في الحكم، وهو ما فشل فيه اليسار حتى الآن". ويشير إلى أن "الحكومة اتخذت مرغمة العديد من الإجراءات، وفي ظرف معين هو أزمة كورونا. وحتى صندوق النقد الدولي دافع بدوره، وحث على منح الأموال لكي تعمل الدولة على إنقاذ الناس، وبالتالي فإن الحكومة تطبّق هذه الأفكار والتوصيات لأن الظرف خاص". ويضيف: "بالعودة إلى خطاب رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ فقد ذكر أننا في مرحلة تضامنية، ولكن الإجراءات الموجعة آتية وهي مرحلة الإصلاحات، ما يعني أن هذه الاجراءات الحمائية الآن ظرفية ولن تتواصل".
ويعتبر الكيلاني أن "جوهر الخيارات سيتغير في حال تجاوز الأزمة، وعودة الأوضاع إلى صورتها الطبيعية، وساعتها سيعود برنامج الإصلاحات المطبق من الدوائر المالية العالمية، لا سيما أن الحكومات المتعاقبة وضعت تونس في مديونية كبيرة يصعب تجاوزها". ويرى أنّ "أسباب فشل اليسار متعددة، فالانتخابات ليست على أساس البرامج ومصلحة البلاد. والمتأمل في مجلس النواب يرى أنه يضم رؤوس أموال ومهربين وأصحاب نفوذ ومتهربين، وهناك من وظف المال للوصول إلى هناك". ويضيف: "صحيح أن المجلس يمثل الشعب نظرياً، وصندوق الاقتراع هو الذي أفرز هذا المشهد، لكن اليسار لا يمكن أن ينجح، لأنه يدافع عن مبادئ ولا يستعمل الأموال لشراء الأصوات، ولهذا سيبقى على الهامش وصاحب أفكار ومشاريع، ويخاصم على البرامج، إلى أن يأتي يوم يتم فيه تجاوز المرحلة الانطباعية والعاطفية، وساعتها سيتم الالتفات لليسار ولبرامجه الاجتماعية التضامنية التي يدافع عنها منذ عشرات السنين. لكن هذه المرحلة الآن للأسف ليست مرحلة اليسار".
أما الأمين العام لـ"التيار الشعبي"، زهير حمدي، فيقول، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "ما يُعلَن عنه لا يعدو أن يكون مجرد أفكار وشعارات، ولكن الممارسات يمينية منحازة لقوى الهيمنة الخارجية"، موضحاً أن تونس كانت أمام فرصة تاريخية لشق طريق مختلف، خصوصاً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ومراجعة منوال التنمية وعلاقتها بالمانحين الأجانب. ويشير إلى أن "الحكومة تحدثت عن خصخصة بعض المؤسسات العمومية، وعن خيارات تبدو عكس مصلحة البلاد، في الوقت الذي تعتبر فيه الظروف ملائمة لاتباع خيارات أفضل لفائدة الشعب"، معتبراً أن "اليمين الشعبوي قام بعملية سطو على شعارات اليسار واستفاد منها، وهناك نخب وقيادات ليبرالية معروفة أصبحت تستغل اليوم هذه الشعارات اليسارية، على غرار مراجعة قانون البنك المركزي والديون الخارجية وغيرها". ويضيف حمدي "أنه تمت الاستفادة من أخطاء اليسار الكثيرة، إذ فشل في إيصال مشروعه للناس وتطبيق أفكاره. وبينما هناك عوامل خارجية أثرت، وسرّعت بخروجه من الساحة السياسية، فإن هناك عوامل داخلية تفسر ذلك أيضاً، وأهمها غياب التجديد وعدم الوصول إلى الناس".
وكان مؤسس حزب "العمال" اليساري، حمة الهمامي، قد وجّه رسالة مطولة في بداية الأزمة للرئيس التونسي قيس سعيّد، ذكّر فيها بأن معظم الفاعلين في السياسة الدولية اليوم من حكّام ومسؤولي منظمات دولية يؤكّدون أنّ عالم ما بعد وباء كورونا سيكون مختلفاً عن عالم ما قبله، وهو ما يجعلهم يُدرجون سياساتهم في مواجهته ضمن تصوراتهم لمستقبل أوطانهم حتى يضمنوا مصالحهم. وأضاف أنه "من المضحكات المبكيات أنّ هؤلاء الذين دفعوا بحكّامنا إلى تبنّي ليبراليتهم المتوحشة، وفتح حدود بلادنا لرساميلهم وسلعهم ليدمّروا فلاحتنا وصناعتنا وخدماتنا العامة، وينهبوا ثرواتنا ويستغلوا بنات شعبنا وأبنائه مقابل أجور بؤس، هم أوّل من سارع لغلق الحدود والانكفاء على نفسه. ولهذا السبب فنحن نعتقد أنّ مواصلة التعاطي مع وباء كورونا بالأساليب القديمة، الفاشلة والمعادية لمصالح الوطن والشعب، لن تحدّ من قدرة وطننا في مواجهة الوباء فحسب، بل ستدفع به إلى الخلف بعد انتهائه، ليجد نفسه غارقاً في المشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية بسبب السياسات الخرقاء لحكامه". وتابع أنه "من باب المسؤولية الوطنية والتاريخية، نتقدم من جديد، بما كان تقدّم به حزبنا، حزب العمال، من مقترحات نعتبرها الكفيلة حقاً بإنقاذ شعبنا من ويلات الوباء المستجد وتعبيد الطريق له لبناء مستقبل أفضل".