تونس: خلافات اليسار تشتّت أصوات مناصريه وتضعف حظوظه

تونس: خلافات اليسار تشتت أصوات مناصريه وتضعف حظوظه

12 سبتمبر 2019
تصاعدت وتيرة المنافسة بين ممثلي العائلة اليسارية (Getty)
+ الخط -
يتنافس خمسة مرشحين على استمالة أصوات خزان وأنصار اليسار التونسي في الانتخابات الرئاسية المبكرة في 15 سبتمبر/أيلول الحالي، بخطابات متقاربة ووعود متشابهة بين حمة الهمامي ومنجي الرحوي وعبيد البريكي ومحمد عبو وإلياس الفخفاخ. وتصاعدت وتيرة المنافسة بين ممثلي العائلة اليسارية بمختلف تشكيلاتها ومرجعياتها، مطلقة خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الوعود نفسها، بتحقيق العدالة الاجتماعية والتقسيم العادل للثروات ومحاربة الفقر والقضاء على التفاوت الجهوي. ويرى مراقبون أن الحجم الانتخابي لمرشحي اليسار الخمسة متفاوت في الانتخابات التي ستجرى الأحد المقبل، رغم الحراك الانتخابي اللافت لمنجي الرحوي الذي يجوب البلاد، أو الحضور الميداني لمحمد عبو الذي تمكن من التواصل مع مختلف جهات البلاد.

ويتقاسم مرشحو اليسار التونسي تاريخاً من النضال في زمن الاستبداد وخلال الحقبة الماضية بدرجات متفاوتة، حسب تاريخ المرشحين وسنهم ورصيدهم النضالي. وجمعت مرشح حزب العمال حمة الهمامي ومرشح حزب التيار الديمقراطي محمد عبو صولات من النضال في الدفاع عن الحقوق والحريات، بالإضافة إلى الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات زمن حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. كما يعد مرشح حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (وطد) منجي الرحوي ومرشح حركة تونس إلى الأمام عبيد البريكي ومرشح حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات إلياس الفخفاخ من سلالة أحزاب يسارية معارضة ناضلت خلال حقبة الاستبداد.

ويتحمل مرشحو اليسار مسؤوليات مختلفة بعد الثورة، باستثناء حمة الهمامي، حيث شغل الرحوي منصب عضو في مجلس الشعب لثماني سنوات منذ قيام الثورة، فيما تسلم عبو والفخفاخ وبريك مناصب حكومية، حيث شغل الأول منصب وزير الحوكمة والإصلاح الإداري، والثاني حقيبتي السياحة والمالية خلال حكومة "الترويكا"، فيما شغل بريك منصب وزير الوظيفة العمومية في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة يوسف الشاهد، والتي كان من المرجح التحاق الرحوي بها.

ويختلف المرشحون في الرؤية بشكل طفيف، غير أنهم يطرحون رؤية جديدة لليسار التونسي تقوم على إمكانات الحكم أو التحالف الحكومي المشروط، فيما بقي الهمامي متمسكاً برؤية فكرية ثابتة لم تتطور من أجل فعل سياسي مؤسساتي مخالف لحقبات العمل السري والمعارضة في الجامعة ووسط الشارع. ويمكن اعتبار المرشح حمة الهمامي (67 سنة) شيخ اليسار التونسي مقارنة بباقي المرشحين، حيث يتربع زعيم حزب العمال، ذو المرجعية الماركسية ووريث حزب العمال الشيوعي الذي يعد من أكبر وأعرق أحزاب اليسار التونسية (تأسس منذ 33 سنة)، على عرش ائتلاف الجبهة الشعبية، قبل أن ينفضّ الائتلاف الانتخابي بسبب خلاف مع رفيقه منجي الرحوي، القيادي في حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (وطد) ذي المرجعية التروتسكية والنائب الشرس الذي لمع نجمه منذ قيام الثورة. ويعتبر الرحوي نفسه الوريث الشرعي لزعيم "وطد" شكري بلعيد الذي اغتيل في 2013، وهو من أبرز مؤسسي الجبهة الشعبية مع الهمامي، باعتبار "وطد" ثاني أكبر مكونات الائتلاف اليساري بعد حزب العمال.


وتعاظم الخلاف بسبب تمسك الهمامي بإعادة الترشح للرئاسة، وعدم فسح المجال للرحوي لخوض التجربة باسم اليسار التونسي، بعد فشل الهمامي في انتخابات العام 2014، لاعتبارات أنه لم يتطور ولم يقدم بدائل للنهوض بالجبهة الشعبية التي أخذت تتآكل بسبب انفراده بالتسيير والتنظير. وبلغ الخلاف بين الرحوي والهمامي حد التناحر وتبادل التهم والتشكيك في الوطنية، ليبرز عبيد البريكي (62 سنة) ومشروعه لتوحيد العائلة اليسارية وفق مشروع ورؤية مخالفة لليسار كما يصرح. وحسب أبناء اليسار التونسي فإن البريكي، ذا التاريخ النقابي الطويل، سيلعب دوراً في رأب الصدع بين الرفيقين، إلا أنه طرح نفسه خياراً ثالثاً في الانتخابات الرئاسية، مستغلاً انهماك الطرفين في الخلاف بينهما. ورغم طرحه جمع العائلة، فإن البريكي القادم من وراء دعم النقابات والعمال لا يختلف عن مدرسة الرحوي السياسية، بل إنه سحب من عائلة "الوطنيين الديمقراطيين" شقيق شكري، عبد المجيد بلعيد وأرملته ورفاقا كثرا، مستغلاً بدوره تركة بلعيد السياسية للترويج لحزبه الجديد.

وفي الجسم اليساري يتقارب محمد عبو، زعيم حزب التيار الديمقراطي، حديث التكوين منذ 6 سنوات، مع رئيس المكتب السياسي لحزب التكتل إلياس الفخفاخ، فهما يرفعان لافتة الحزب الاجتماعي الديمقراطي، ويدعوان إلى نظام يقوم على العدالة الاجتماعية. وإن كان التيار الديمقراطي وازناً سياسياً من خلال تجربته في الانتخابات البلدية، حيث نجح في التموضع والحصول على نصيب محترم من البلديات والسلطة المحلية، إلى جانب تموضعه البرلماني اللافت، فإن حزب التكتل يعول على رصيد متآكل بعد تجربة الحكم بعد الثورة، التي أفقدته خزانه الانتخابي ورصيده الحزبي، غير أنه يمتد في عراقته إلى نضالات ما قبل الثورة، كما يحظى بصيت دولي نظراً لعضويته في صلب الاشتراكية الدولية.

ويكمن الاختلاف أيضاً بين المرشحين الخمسة في رؤيتهم للعلاقة مع الإسلام السياسي، خصوصاً مستقبل العمل والتفاوض مع حزب النهضة، صاحب الأغلبية في المشهد السياسي. ففي وقت وافق "التكتل" والمؤتمر من أجل الجمهورية، الذي كان عبو أحد أبرز قياداته مع الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، الانخراط في توليفة حكومية والدخول في تحالف برلماني، إلا أن "العمال" و"وطد" حافظا على الرؤية المعادية لأحزاب الإسلام السياسي، بل وأدت سنوات من الصراع بينهما إلى خسارة لليسار وللحزبين. وتميز خطاب الهمامي بالعدائية مع حركة "النهضة"، بانياً وعوده الانتخابية على محاسبة المتورطين في الجهاز السري للحركة وكشف المتورطين في الاغتيالات التي طاولت زعماء اليسار، ومحاسبة المسؤولين عن تسفير الشباب الى بؤر الإرهاب، بالإضافة إلى كيل التهم إلى قيادات "النهضة" ومسؤوليها. من جانبه عدل الرحوي في لغة خطابه التي بدت مخالفة عن خطاباته الشرسة تحت قبة البرلمان التي لا تستثني "النهضة" من جرائم الإرهاب والتسفير والاغتيالات والمؤامرات الخارجية، ليظهر متوازناً، مركزاً على القضايا الاجتماعية والفقر والبطالة، لتستقر اتهاماته للحركة في المسؤولية السياسية لحكومة ما بعد الثورة.

من جانبه فاجأ الفخفاخ بقية المرشحين ليسترعي دعم العائلة اليسارية والحقوقية، بتعهده الدفاع عن قضايا حقوقية خلافية، مثل تأكيده "إلغاء العقوبة السجنية لمستهلكي القنب الهندي، وإلغاء ضرورة إظهار عقد الزواج للإقامة في النزل (الفندق)" في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية. وحتى أن منظمات حقوقية وطيفاً واسعاً من اليسار بات يرى فيه مرشحاً رسمياً وخياراً جديداً يعوض مرشحي الجبهة الشعبية المتخاصمين، الهمامي والرحوي. كما جلب عبو انتباه طيف هام من اليسار التونسي بسبب موقفه الرافض لتطبيق عقوبة الإعدام، خلال المناظرة التلفزيونية، إلى جانب موقفه المساند للمساواة في الميراث، وهما عاملان سحبا من عبو مساندة عدد من أنصار الثورة الإسلاميين الذين كانوا يناصرونه لرفعه لواء الشفافية والحرب على الفساد.

ويعتبر المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن صراع الهمامي والرحوي تحول من المنافسة على رئاسة البلاد إلى صراع على زعامة اليسار التونسي، حيث ستحدد نتائج الانتخابات المبكرة مسيرة الرجلين السياسية، في وقت ينتظر أنصار اليسار، خصوصاً قواعد الجبهة الشعبية، ما ستقرره صناديق الاقتراع لقياس أيهما أوفر حظاً وأصلح لقيادة المرحلة المقبلة. ويلفت المؤدب إلى أن "الهمامي معارض متميز، التصقت صورته في الخيال الشعبي التونسي بمقاعد المعارضة والاحتجاج ضد الحكومات ليختار البقاء ثابتاً في الصورة النمطية التي كرسها لدى الناخبين عموماً، من دون أن يتسلل إلى موقع الحكم والتسيير والقيادة، ما يعسر عليه ارتداء بزة الرئيس". ويوضح أن "الرحوي كان برلمانياً متميزاً ومعارضاً شرساً، حاول الاجتهاد للخروج من الصورة النمطية التي رافقته تحت قبة البرلمان"، مشيراً إلى أن "تجربته تؤهله ليكون وزيراً متمكناً، غير أن خلافه مع الهمامي أفقده الكثير من رصيد الثقة، سواء بين أنصار الجبهة الشعبية وفي صفوف اليسار عموماً ولدى التونسيين الذين يبحثون عن الرئيس الجامع لكل الأطياف، والضامن للاستقرار السياسي، والقادر على حل الخلافات والنزاعات التي تهدد الأمن القومي والاجتماعي".

ويعتبر المؤدب أن "حظوظ البريكي أقل بكثير من باقي مرشحي اليسار، لعدة اعتبارات، بينها ضعف الحملة الانتخابية وحضوره الإعلامي وغيابه اللافت عن الميدان مقارنة بالحيوية والحركية الكبيرة لباقي المرشحين". ويوضح أن "مرشحي اليسار أبعد من كسب طيف واسع من الناخبين التونسيين المتأثرين بما يعرف بالأبوية السياسية التي وظفها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ومن قبله الرئيس الحبيب بورقيبة، والتي ساعدتهما في الحفاظ على قدر من الاستقرار وكسب احترام فئة هامة من الشعب الذين يعتبرون قائدهم أبا الشعب الذي يجمع ويحمي ويقود، حتى بصلاحيات رمزية أو محدودة". وينتقد المؤدب "عدم قدرة اليسار على تجميع شتاته لتقديم مرشح وحيد، ما يظهر أن حقبات التاريخ المتعاقبة وتراكم التجارب، السرية وفي زمن الاستبداد وبعد الثورة، لم تغير شيئاً في هذه الكيانات السياسية العاجزة عن الانتظام ورص الصفوف ضد منافسيهم وخصومهم".