05 يونيو 2017
تهريج النخبة
"الحاكم يضربُ بالطبلة/ وجميع وزارات الإعلام تدق على ذات الطبلة/ وجميع وكالات الأنباء تُضَخِّمُ إيقاع الطبلة/ والصحف الكبرى..والصغرى/ تعمل أيضاً راقصةً/ في ملهىً تملكه الدولة". مطلع قصيدة نزار قباني هذا يصلح لوصف حال شريحة كبيرة من النخبة العربية، من الأكاديميين والإعلاميين والمثقفين الذين يحترفون ترويج خطاب السلطة ومشاريعها، ولا يخجلون من "التطبيل" المتواصل، ولا يجدون غضاضة في بيع الوهم.
بدا أن النقد الموجه لحالة التماهي الفج مع خطاب السلطة، والترويج والتطبيل له، في السنوات الأخيرة، وخصوصاً مع موجة الربيع العربي، قد نجح في جعل التطبيل محفوفاً بمخاطر السخرية والاستهزاء من شريحةٍ لا بأس بها. لكن، مع انحسار تلك الموجة تظهر عودة قوية لتماهي النخب مع السلطات في الوطن العربي، بل تظهر شراهة فوق المعتاد، إما للتكفير عن ماضٍ نقدي عند بعض هذه النخب، أو لمزيد من الانخراط في المنظومة القائمة، وإثبات الحضور فيها بالمزايدة على المنافسين داخلها.
في النموذج الريعي، وهو النموذج الحاكم عربياً في معظم الأقطار، يمكن للسلطة الهيمنة على كل المجالات، ويصبح المجتمع معتمداً بشكل كامل على السلطة، غير قادرٍ ولا راغبٍ في الفكاك من اعتماده عليها، والتصاقه بها، وهذا لا ينطبق اقتصادياً فقط على القطاع الخاص الذي يعتمد على الإنفاق الحكومي، أو عامة الناس الذين يعيشون على توزيع الريع ضمن آلياتٍ محدّدة، لكنه ممكن التطبيق حتى على النخب الثقافية، إذ إنها، كما نرى في عدة نماذج عربية، لا تستطيع الخروج من المنظومة الثقافية والقيمية التي تتبناها السلطة، وبعض هذه النخب ربما يبدي نقداً لبعض الممارسات، غير أن هذا النقد يبقى تحت سقف قيم السلطة ورؤيتها، وهو يسعى جاهداً لتظهير هذا النقد بوصفه تحت هذا السقف، خوفاً من الجمهور أحياناً قبل السلطة نفسها.
من يغامر بتقديم نفسه خارج منظومة السلطة القيمية يجد أنه في اغترابٍ فكري ووجداني عن جمهورٍ قد يلفظه ويرفضه، لأن هذا الجمهور تهيمن عليه فكرة الاعتماد على السلطة، ضمن حالة ريعية، لا تقبل الخروج عن الخطوط الأساسية المرسومة في الخطاب والرؤية. إن هذا يدفع أحياناً المثقف الذي يتبنى خطاباً نقدياً لمحاولة إبراز نفسه شخصاً "طبيعياً" ضمن المنظومة، حتى لا يُنَفِّر الناس منه، ويجد نفسه معزولاً.
لا غرابة في أن تكون لكل سلطة نخبها، كما أن غالبية النخب في المجتمع تفضل الانضواء تحت مظلة السلطة، عوضاً عن الإصرار على خطابٍ نقدي، أو الانكفاء، فما يوفره الانضواء تحت هذه المظلة (بغض النظر عن تفاوت درجات الالتزام بخطاب السلطة) من حضورٍ وتأثير، يغري أي مثقف أو فاعلٍ في الوسط الثقافي بالدخول ضمن هذه المنظومة.
نتائج خضوع النخبة الثقافية لعلاقةٍ ريعيةٍ الطابع مع السلطة، يمكن أن نشاهدها في خطاب الأكاديميين وخبراء السياسة والاقتصاد، حين يتصل الأمر بأزمة عند السلطة، أو حربٍ تخوضها، أو إجراءاتٍ تنوي القيام بها، فالترويج من جهة، والتبرير من جهة أخرى، سمتان غالبتان لهذا الخطاب، بل يمكن القول إن التضليل عبر ترويج خطابٍ أو إجراءاتٍ لا تنبع من رؤية تراعي المصلحة الوطنية، أو تحمل معها مؤشرات أزمة، وعبر تبرير أخطاء كبيرة، وممارساتٍ تضر المجتمع، هو الوصف الأدق لخطابٍ خبراء ومثقفين كثيرين.
في الصورة التي يرسمها أنصار الخطاب النقدي من المثقفين، يقع التشكيك أو التوجس من ممارسات السلطة واقتراحاتها في قلب أي خطابٍ ثقافي نقدي، لكن هذا ليس حاضراً عند بعض المثقفين الذين يقدمون أنفسهم في إطارٍ نقدي، فهُم يبتلعون رواية السلطة في أحيانٍ كثيرة، ويعيدون إنتاجها وتسويقها، أو يروجون ممارساتٍ سيئة للسلطة تحت عنوان الاضطرار أو التقاطع مع الممارسة، وينقدون، على هامش هذه الممارسات، بعض المظاهر الثانوية الناتجة عنها، للاحتفاظ "ببرستيجهم" النقدي. ثمن النقد عالٍ بلا شك، لكن الاحتفاظ بمسافة من خطاب السلطة وروايتها، والتدقيق في كل ما تقوله وتفعله، هي المهمة الأساسية لأي خطابٍ يدَّعي أنه نقدي، وهذا خطابٌ يغيب، في الفترة الأخيرة، لصالح حفلات ترويج الخطاب الرسمي.
يصل مستوى التهريج وابتذال المصطلحات الذي تقوم به بعض النخب احتفاءً بالخطاب الرسمي إلى ذروته في القرارات الكبرى والأزمات، ولا يتعلق الأمر فقط بغياب أي حس نقدي أو تساؤل، إذ إنه يتعلق، أيضاً، بطريقة الاحتفاء نفسها، والتي تُقدِّم هذه النخب وطرحها نموذجاً للجهل والتسطيح، أي بما يعاكس تماماً الادعاء الأساسي للنخبة، باعتبارها مساهمةً في تنوير المجتمع ورفع منسوب الوعي. هذا التهريج هو تحديداً ما يجعل هذه النخبة بلا وزن ولا اعتبار، وهو أحد أسباب عدم قدرة هذه النخبة على التأثير، والتغيير في الوعي الجمعي، ضمن القضايا التي تسعى في تغييرها، فخطابها فوق ركاكته، معجونٌ بالخطاب السائد المقاوم للتغيير، والمُتَبنَّى من السلطة.
يمثل تهريج النخب على امتداد الوطن العربي مثالاً لطبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة، وفي الوقت نفسه، يشير إلى العجز عن إيجاد مساحة فكرية أو ثقافية مغايرة لخطاب السلطة. في قصيدته "عزفٌ منفردٌ على الطبلة"، يقول نزار قباني: "الطبلةُ تخترقُ الأعصاب، فيا ربي ألهمنا الصبر".
بدا أن النقد الموجه لحالة التماهي الفج مع خطاب السلطة، والترويج والتطبيل له، في السنوات الأخيرة، وخصوصاً مع موجة الربيع العربي، قد نجح في جعل التطبيل محفوفاً بمخاطر السخرية والاستهزاء من شريحةٍ لا بأس بها. لكن، مع انحسار تلك الموجة تظهر عودة قوية لتماهي النخب مع السلطات في الوطن العربي، بل تظهر شراهة فوق المعتاد، إما للتكفير عن ماضٍ نقدي عند بعض هذه النخب، أو لمزيد من الانخراط في المنظومة القائمة، وإثبات الحضور فيها بالمزايدة على المنافسين داخلها.
في النموذج الريعي، وهو النموذج الحاكم عربياً في معظم الأقطار، يمكن للسلطة الهيمنة على كل المجالات، ويصبح المجتمع معتمداً بشكل كامل على السلطة، غير قادرٍ ولا راغبٍ في الفكاك من اعتماده عليها، والتصاقه بها، وهذا لا ينطبق اقتصادياً فقط على القطاع الخاص الذي يعتمد على الإنفاق الحكومي، أو عامة الناس الذين يعيشون على توزيع الريع ضمن آلياتٍ محدّدة، لكنه ممكن التطبيق حتى على النخب الثقافية، إذ إنها، كما نرى في عدة نماذج عربية، لا تستطيع الخروج من المنظومة الثقافية والقيمية التي تتبناها السلطة، وبعض هذه النخب ربما يبدي نقداً لبعض الممارسات، غير أن هذا النقد يبقى تحت سقف قيم السلطة ورؤيتها، وهو يسعى جاهداً لتظهير هذا النقد بوصفه تحت هذا السقف، خوفاً من الجمهور أحياناً قبل السلطة نفسها.
من يغامر بتقديم نفسه خارج منظومة السلطة القيمية يجد أنه في اغترابٍ فكري ووجداني عن جمهورٍ قد يلفظه ويرفضه، لأن هذا الجمهور تهيمن عليه فكرة الاعتماد على السلطة، ضمن حالة ريعية، لا تقبل الخروج عن الخطوط الأساسية المرسومة في الخطاب والرؤية. إن هذا يدفع أحياناً المثقف الذي يتبنى خطاباً نقدياً لمحاولة إبراز نفسه شخصاً "طبيعياً" ضمن المنظومة، حتى لا يُنَفِّر الناس منه، ويجد نفسه معزولاً.
لا غرابة في أن تكون لكل سلطة نخبها، كما أن غالبية النخب في المجتمع تفضل الانضواء تحت مظلة السلطة، عوضاً عن الإصرار على خطابٍ نقدي، أو الانكفاء، فما يوفره الانضواء تحت هذه المظلة (بغض النظر عن تفاوت درجات الالتزام بخطاب السلطة) من حضورٍ وتأثير، يغري أي مثقف أو فاعلٍ في الوسط الثقافي بالدخول ضمن هذه المنظومة.
نتائج خضوع النخبة الثقافية لعلاقةٍ ريعيةٍ الطابع مع السلطة، يمكن أن نشاهدها في خطاب الأكاديميين وخبراء السياسة والاقتصاد، حين يتصل الأمر بأزمة عند السلطة، أو حربٍ تخوضها، أو إجراءاتٍ تنوي القيام بها، فالترويج من جهة، والتبرير من جهة أخرى، سمتان غالبتان لهذا الخطاب، بل يمكن القول إن التضليل عبر ترويج خطابٍ أو إجراءاتٍ لا تنبع من رؤية تراعي المصلحة الوطنية، أو تحمل معها مؤشرات أزمة، وعبر تبرير أخطاء كبيرة، وممارساتٍ تضر المجتمع، هو الوصف الأدق لخطابٍ خبراء ومثقفين كثيرين.
في الصورة التي يرسمها أنصار الخطاب النقدي من المثقفين، يقع التشكيك أو التوجس من ممارسات السلطة واقتراحاتها في قلب أي خطابٍ ثقافي نقدي، لكن هذا ليس حاضراً عند بعض المثقفين الذين يقدمون أنفسهم في إطارٍ نقدي، فهُم يبتلعون رواية السلطة في أحيانٍ كثيرة، ويعيدون إنتاجها وتسويقها، أو يروجون ممارساتٍ سيئة للسلطة تحت عنوان الاضطرار أو التقاطع مع الممارسة، وينقدون، على هامش هذه الممارسات، بعض المظاهر الثانوية الناتجة عنها، للاحتفاظ "ببرستيجهم" النقدي. ثمن النقد عالٍ بلا شك، لكن الاحتفاظ بمسافة من خطاب السلطة وروايتها، والتدقيق في كل ما تقوله وتفعله، هي المهمة الأساسية لأي خطابٍ يدَّعي أنه نقدي، وهذا خطابٌ يغيب، في الفترة الأخيرة، لصالح حفلات ترويج الخطاب الرسمي.
يصل مستوى التهريج وابتذال المصطلحات الذي تقوم به بعض النخب احتفاءً بالخطاب الرسمي إلى ذروته في القرارات الكبرى والأزمات، ولا يتعلق الأمر فقط بغياب أي حس نقدي أو تساؤل، إذ إنه يتعلق، أيضاً، بطريقة الاحتفاء نفسها، والتي تُقدِّم هذه النخب وطرحها نموذجاً للجهل والتسطيح، أي بما يعاكس تماماً الادعاء الأساسي للنخبة، باعتبارها مساهمةً في تنوير المجتمع ورفع منسوب الوعي. هذا التهريج هو تحديداً ما يجعل هذه النخبة بلا وزن ولا اعتبار، وهو أحد أسباب عدم قدرة هذه النخبة على التأثير، والتغيير في الوعي الجمعي، ضمن القضايا التي تسعى في تغييرها، فخطابها فوق ركاكته، معجونٌ بالخطاب السائد المقاوم للتغيير، والمُتَبنَّى من السلطة.
يمثل تهريج النخب على امتداد الوطن العربي مثالاً لطبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة، وفي الوقت نفسه، يشير إلى العجز عن إيجاد مساحة فكرية أو ثقافية مغايرة لخطاب السلطة. في قصيدته "عزفٌ منفردٌ على الطبلة"، يقول نزار قباني: "الطبلةُ تخترقُ الأعصاب، فيا ربي ألهمنا الصبر".