تقنيات قديمة لمخرج مُستقلّ: "طُعْم" جينكين ومتغيّرات الكون

تقنيات قديمة لمخرج مُستقلّ: "طُعْم" جينكين ومتغيّرات الكون

11 سبتمبر 2020
"طُعم": اختبار سينمائي عن بطش الرأسمالية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

 

بكتابته وإخراجه فيلمه الروائي الطويل "طُعْم" (2019)، إلى تصويره وتوليفه، يستوفي البريطاني مارك جينكين (1976) شروط الانتماء إلى "سينما المؤلف". لكنْ المُنجز السينمائي يبدو مُتطرّفاً في بدائيّته، حين يمضي أبعد في اشتغاله التقني، مُستخدماً كاميرا 16 ملم (بوليكس) قديمة، في عصر الديجتال وتطوّره، يُصوّر بها بالأسود والأبيض، ويُحمّض خاماتها بنفسه، ويتدخّل يدوياً لإضفاء عمقٍ على الصورة العاجزة عن تقبّل الصوت الخارجي (الحوار)، ما يدفعه إلى إدخاله على الشريط بعد انتهاء التصوير.

ولأنْ لا حدود للإبداع السينمائيّ، ولا وجود لتوافق كلّي على شروط إنتاجه وتلاؤمه بالضرورة مع أكثرها تطوّراً، تقنياً على الأقلّ، ظهر تيار "السينما المستقلّة" وحركة "دوغما 95" الدنماركية، وغيرهما من التيارات التجديدية الراغبة في الفكاك من هيمنة صناعية مُقَيّدة. لكنّ السؤالين الأهمّين يبقيان، في حالة "طُعْم"، شديديّ الخصوصية: ما هي النتيجة النهائية المعروضة على المتفرّج؟ وهل استكمَل الفيلم شروط العمل السينمائي الحقيقي، فكراً وجمالاً، ليُبرّر نقدياً التغاضي عن "فجاجة" تقنيّاته؟

المُنجز النهائي لا يكتفي بأجوبة إيجابية على أسئلة تبحث، ضمناً، عن مُبرّراتٍ للانكفاء التقني وبساطته. بل إنّ محصّلته نفسها تطرح أسئلة جديدة حول مفهوم "التفكير السينمائي"، وكيف يُمكن للسينمائيّ الموهوب أنْ يصنع، بأبسط الأدوات، فيلماً رائعاً، غير مُوجَّه إلى النخبة فحسب، بل إلى جمهور سينمائي واسع.

فوز "طُعْم" بـ"جائزة الجمهور" في مهرجانات عالمية عدّة يشير إليه. أما الجوائز الكبرى، فاعترافٌ ضمني بقوّة مُنجزٍ يصعب التعامل معه كـ"محاولة تجريبية" لمخرج مستقلّ، يريد تحقيق فيلمه بأيّ ثمن. حصوله على الجائزة الكبرى وجائزة الجمهور في الدورة الـ19 (25 يوليو/ تموز ـ 4أغسطس/ آب 2020) لـ"مهرجان آفاق جديدة الدولي (بولندا)"، يُلخِّص جانباً من قوّة مُنجَزٍ يمزج بين متنٍ سردي تقليدي (حبكة) ومغامرة أسلوبية تُعكّر صفو سلاسةِ مُتابعَةٍ. هذا مُتأتٍ من امتدادٍ إبداعيّ، عُرِف به مارك جينكين. من أبرز خصوصياته: الإنتاج الذاتيّ لأفلامه بميزانيات قليلة، واستقبال نقديّ جيّد لها، كالذي قوبل به باكورته "حرقٌ ذهبي" (2002).

 

 

الدقائق الأولى من "طُعم" غير مُشجّعة. شريط مَخْدوش، ينقل مُفتَتحُه مَشهداً عاماً لميناء إنكليزي صغير. الزمن مُمَوَّه، وحركة البحر مـأخوذة بلقطاتٍ قريبة، تهرب الكاميرا منها سريعاً إلى قاربِ الصيّاد العبوس مارتين وارد (إدوارد رو)، الذي ينزل منه، حاملاً بضع سمكات، كلّ ما ناله اليوم، وعليه الذهاب إلى حانة المدينة لبيعها إلى صاحبتها. فقر المشهد من فقر الحياة المتبقية لصيادي مدينة "كورنوول" البحرية. حدّة اللقطات المتنقّلة بين الوجوه في الحانة وخارجها، التي تبدو كأنّها مُقطّعة (مولّفة) بسكين، لا تُضيّع مدلولاتها النفسية، ولا تُقلّل من شحناتها التعبيرية. ربما لهذا السبب، ينتظر المتفرّج ما سيأتي بعد كلّ لقطة، ومن دون انتباه إلى رداءة الصورة والصوت، يجد نفسه مُنجذباً إلى متابعة مسار صراع يعيشه صيّاد يرفض ترك مهنته، ويُراد إجباره على التوافق مع مُتغيّرات كونية يقودها تيار رأسمالي جارف، يريد تحويل المدينة/ القرية إلى منتجع سياحي.

يرمي الرأسماليون، القادمون من لندن، الطُعْم في الميناء. يبتلعه الأخ الأصغر ستيفن (جايلس كينغ)، الذي يقبل العمل مع صاحب المشروع السياحي الجديد كسائق قارب رحلات بحرية قصيرة. الصيد البحري بقوارب صغيرة لم يعد مُربحاً لهم، لذا لا بُدّ من إخضاع الصيادين لقوانين السوق الأكبر. لا ينحو جينكن إلى معالجة سياسية فجّة، ولا يلجأ إلى خلق مَشاهد مشحونة بحركة ديناميكية، فهذا لا تتحمّله كاميرته، ولا بقية وسائل إنتاجه السينمائي.

عبر رحلات مكوكية قصيرة بالقارب بين البر وعمق البحر، تُنسج حكايات وتتفاعل. الصراع بين القادمين من خارج المكان والمُصرّين على البقاء فيه تنقله اللقطات المقرّبة من الوجوه، المشحونة دائماً بطاقة تعبيرية هائلة، لا تقلّ عن تلك التي تُنقَل تفاصيلها عادة بكاميرا 35 ملم. في "طُعْم"، هناك اشتغال على نقل حدّة المشاعر عبر الوجوه لا الحركة، وعلى إبراز التباين البشري (كونتراست) بين السويّ العفوي والكريه غير العابِئ بمصير كائناتٍ تشابكت حياتها وذكرياتها في ذلك المكان، وعاشت قروناً بفضل عطاياه.

الاشتغال والإبراز ثابتان، وفي المتن هناك دائماً طاقة تعبير هائلة عن حالات يأس وإصرار على مكابرة، فيها (الطاقة) شبهٌ كبير بمكابرة مخرج يُصرّ على مواصلة العمل في سينما أخرى مختلفة، كالتي عند إنغمار برغمان. فثنائية الأسود والأبيض معهما ليست أكثر من نسقٍ جانبيّ، تُجاوره رؤية للعالم أهمّ من اللون المنقولة عبره.

المساهمون