"بندقية وحقيبة": ثمن الماضي الهندي باهظٌ

"بندقية وحقيبة": ثمن الماضي الهندي باهظٌ

20 مارس 2020
"بندقية وحقيبة": مصائر غير متوقّعة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في مستوطنة التائبين، يجلس الزوجان الهنديان سوكرام وسومي في عتمة الليل حول النار، مهمومين بإدخال ابنهما إلى مدرسة حكومية، فيبحثان عن حلّ لهذه العقدة. على غفلةٍ، يستذكران حبّهما وشدّة تعلّق أحدهما بالآخر. يتكرّر هذا المشهد بتنويعات مختلفة: مرة بإضافة أشخاص إليهما يتذكّرون، بحسرة وبصوتٍ خافت، أيام نضالهم المسلّح ضد الحكومة الهندية، ومصائرهم الشخصية، بعد تسليم أنفسهم إليها، من دون أنْ تلتزم بما وعدتهم به؛ ومرّة أخرى بوصول أصواتٍ إليهما تتهادى من بعيد، وفي كلّ مرّة يريان فيها كتلة ضوء خافتة تقترب من كوخهما وسط الغابة، يدبّ فيهما خوف منها.

في النهار، تتوضّح المعالم وملامح الوجوه وتفاصيل المكان. دائرة الحركة تتّسع، وتذهب إلى أبعد من حدود المستوطنة المعزولة، التي أقامتها السلطات للـ"ناكساليين" (الاسم الرسمي لأعضاء الحزب الشيوعي الماوي الهندي)، التائبين من العمل المسلّح في الجبال والقرى البعيدة، بعد عفوٍ أصدرته، واعدة المشمولين به بتأمين حياة مريحة لهم.

اختلاف الليل والنهار لا يُغيّر جوهر المشهد، الموزّع والمتناقض، كما عنوان الوثائقي، بين "بندقية وحقيبة" (2020)، وأيضاً بين ماضي أفراد آمنوا بالكفاح المسلح وسيلة لإجبار الأنظمة الهنديّة على تحسين أحوال المزارعين الفقراء، وإنهاء عقودٍ من الظلم والإهمال اللاحق بإثنيات وقبائل سكنت الجبال والمناطق البعيدة عن المراكز المدنية؛ وحاضرٍ بائسٍ، أسير موقف انتقاميّ منهم ومن تاريخهم، لم يكتفِ بعزلهم، بل سحب سلبيته على أطفالهم.

حرمان طفل من الالتحاق بالمدرسة، بسبب الماضي السياسي لوالديه، عنوان مغرٍ لريبورتاج صحافي أو تلفزيوني. لكنّ للهندية أريا روث، ولشريكتيها الرومانية كريستينا هانيز والإيطالية إزابيلا رينالدي، وجهة نظر ورؤية مختلفة للحكاية، تتجاوز فكرة التغطية والنقل إلى كشف ما يختلج في السياسيّ المتشدّد، لحظة إحساسه بأنّ ما فعله في الماضي ينسحب اليوم سلباً على عائلته وأطفاله والمقرّبين منه.

في الأحوال العادية، يشترط البوح أمام الكاميرا توفير مناخ من الثقة المتبادلة بين المخرج والشخصية. في حالة سوكرام وسومي الأمر أعقد من ذلك، لا لأنّهما يستنكفان البوح علانية، بل لأنهما يميلان إلى الصمت والاقتصاد في التعبير عن جوانيّاتهما. الحديث عن علاقتهما العاطفية أكثر ما يُسلّيهما، ومستقبل ابنهما شاغلهما الأكبر. في هذه الحالة، ينبغي على الاشتغال أنْ يُركّز على المتن السردي، والدخول مباشرة إلى العقدة الدرامية، من دون تمهيد. يمرّ هذا عبر جعلهما ينسيان وجود الكاميرا بالكامل، وأخذ ما تلتقطه من كلامهما للبناء عليه درامياً.
لا تأتي العقدة السردية وحدها من صعوبة ذهاب الطفل إلى المدرسة، بل في حمل والدته، المثير لمخاوف وأسئلة عما إذا كان سليماً قرارهما إنجاب كائنٍ ثانٍ إلى الدنيا، بينما من سبقه لا يزال يعاني تبعات ماضيهما السياسي. المجاهرة بتلك الأسئلة تصل عبر حديثهما المغلّف بالتوجّس والحيرة، حتى مع بعض رفاقهما القدماء.

الملازمة الطويلة للعائلة وَفّرت، في مراحلها الأخيرة، ثقة زائدة وكافية للحديث عن تفاصيل الماضي وتعقدياته بصوت مسموع. ولادة الطفل الثاني مؤشّر إلى "قدرية" عرفتها الديانات الهندية غالباً. لكنّ الغريب، في حالة الزوجين، أنّهما كانا منتسبين إلى حزبٍ علماني، وحملا السلاح دفاعاً عن حقوق مدنية ومطالب معيشية. ذلك الجانب المتأصل في السلوك يُضفي حزناً على المشهد العام لحياة كائنات، فدت نفسها لسعادة آخرين ومستقبلهم، فيما تعجز عن مواجهة مصيرها الشخصي. عجز يظهر جلياً أثناء مراجعة الأم للجهات الرسمية، التي تتعكّز في رفضها على عدم توفّر الأب على شهادة إقامة، صادرة من مسقط رأسه في منطقة "تشاهتسيغار"، وبالتالي تبقى عقدة المدرسة من دون حلّ.

المنطقة التي شهدت تمرّداً مسلّحاً، ومُنع سكّانها من مغادرتها، لا يمكن للأب الذهاب إليها للإتيان بشهادة، لأنّ سكّانها يعتبرونه خائناً. الإحساس بثقل التهمة يزيد من وجعه ومن شعوره بالعجز. سكّان المستوطنة يشعرون مثله بحرج وخجل لتركهم التنظيم بدافع قناعاتهم، بعد طول تجربة، بنبذ العنف وبدء حياة جديدة. تعامل السلطات معهم كمواطنين من الدرجة الثالثة يزيد من حدّة شعورهم بالندم، والنظر إليهم ككائنات مجذومة، عليها البقاء في محجرها من دون اختلاط بأحدٍ من خارجه، يزيد غضبهم عليها. عزلة المكان مؤلمة أكثر، حين يرى الكبار أولادهم فيه.



في الإلحاح على إدخال ابنهما إلى المدرسة، تكمن رغبة غير معلنة في كسر حدّة الشعور بالإثم إزاء مخلوقات مولودة من دون إرادتها. لحظة توفّر مَخرج مؤقّت لانتسابه إلى مدرسة داخلية، لم تسع الأرض فرحتهما. لكنّ السلطات تدخّلت سريعاً وحرمتهما منها. كان عليهما، بعد طرده، إكمال تعليمه في البيت. وكان لزاماً عليهما مصارحته بحقيقة ما كانا عليه. لحظة بوح الأم له بتاريخهما السياسي، وأسباب حملهما السلاح ضد السلطة، يخرج مسار الوثائقي من عقدته المركزية، ويتّجه إلى نهاية مفتوحة. السؤال عن وجود الأخ الأصغر ومستقبله يوسّعها. في المساء الذي استدرجت الأم طفلها لسماع اعترافها بـ"خطايا" ماضيهما، سُمع وقع خطى لقادم مجهول. هل وصل أحد المستسلمين إلى المستوطنة؟ هل سيمرّ بتجربتهم المريرة، ويواجه بعد حين أكاذيب إداراتها الحكومية ونذلاتها؟

لبلوغ هذا السؤال المستقبلي، اشتغلت صانعات "بندقية وحقيبة" ـ المعروض في الدورة الـ49 (22 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، والحاصل على تنويهٍ خاص في "مسابقة مستقبل وضاء" ـ على دراسة تجربة سياسية عمرها أكثر من نصف قرن، وعلى ملاحقة شخصيات انفصلت عنها. كان عليهنّ مراقبة مواطن أوجاعها، ونقل انفعالاتها وهواجسها. خيارهنّ بكتابة نصّ وثائقي بلغة روائية تطلّب الاشتغال على جماليات تصوير (كريستينا هانيز) وعناية بالإضاءة لمَشاهد ليلية، وجلسات طويلة أمام نار متّقدة وسط عتمة شديدة، تنعكس ظلالها على وجوه كئيبة.

المساهمون