تركيا "العربية" والإسلام السياسي

05 ابريل 2014

سفينة مرمرة لدى عودتها عقب العدوان الإسرائيلي عليها

+ الخط -
بدا، في العامين الماضيين، أن العالم العربي يفقد شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر، كل علاقة مميزة مع تركيا، جرى بناؤها لبنة لبنة، في عقد من حكم حزب العدالة والتنمية. وبينما بدت أنقرة، مع ظهور أولى بوادر الربيع العربي، من أكثر الدول في الإقليم وخارجه، تجاوباً مع هذا التحول، قوبل هذا الموقف للدولة "الإسلامية" الجارة، بترحاب شعبي عربي ملحوظ، غير أَنه قوبل، على المستويات الرسمية العربية، بقدرٍ من اللامبالاة والتجاهل، يستند إِلى الحذر من موجة الربيع العربي، وما يمكن أن تؤول إليه، وبقيت العلاقات الودية مع أنقرة على حالها، بانتظار ما تسفر عنه "التطورات".
من الصحيح، الآن، بل من الإنصاف التذكير بأن أنقرة وقفت مع موجة الربيع العربي،  من حيث المبدأ، مبدأ حق الشعوب في الحرية والكرامة، وهو شعار بسيط وجوهري، رفعت هذه الموجة لواءَه في القاهرة وتونس وصنعاء وبنغازي ودمشق، وعواصم وحواضر عربية أخرى، وأن هذا الموقف لم يكن، في الأساس، انحيازاً إلى الإسلام السياسي الذي صعد في الانتخابات البرلمانية في تونس، والانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر. من الشواهد على ذلك، أَن أنقرة لم تنسج، قبل موجة الربيع العربي، علاقاتٍ خاصةً ومميزةً مع تيارات الإسلام السياسي العربية، باستثناء علاقة مع حركة حماس، لم تكن على حساب السلطة الوطنية الفلسطينية، أو بديلاً عنها. وكانت علاقةً قريبة الشبه بعلاقاتٍ عربية، نشأت ونمت مع الحركة الإسلامية الفلسطينية، في ظروف الانقسام الفلسطيني، وتحوله إلى أمر واقع. وباستثناء حماس، كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن تنظر بحذر إِلى تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، و"ممالأته" العلمانية في بلاده. وكان الليبراليون العرب يأخذون على الإسلام السياسي العربي أنه لا يُحسن الاستفادة من تجربة الحزب ذي الجذور الإسلامية، لجهة جمعه بين الإسلام والعصرنة، بين الإسلام والانفتاح على أوروبا، حيث ظل الحزب حريصاً على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بأكثر مما يفعل قوميون أتراك، ذوو نزعة علمانية.
المقصود بهذا الاستطراد، الإشارة إلى أن حكومة رجب طيب أردوعان لم تكن معنيةً ببناء علاقات خاصة مع الإسلام السياسي، أَو المراهنة عليه لبناء علاقات أوثق مع العالم العربي. وإذا كان الأمر يتعلق بالإسلام السياسي السني، فإن أنقرة، فيما أقامت علاقات مع حركة حماس، ظلت علاقتها، آنذاك، (قبل موجة الربيع العربي) جيدة جداً مع حزب الله، ودانت بشدة الحرب الإسرائيلية على الحزب، وعلى لبنان، في العام 2006. ومع حرصٍ مماثل، بل مواكبٍ، على بناء علاقاتٍ طيبة مع الدولة اللبنانية.
 يسوق المرء ذلك كله، لتبيان أَن حزب العدالة والتنمية لم يعقد صفقاتٍ سياسية، ولا نسج علاقات خاصة مع الإسلام السياسي، من وراء ظهر الأنظمة، أَو على حساب التيارات الديموقراطية العربية، أَو بالتنسيق مع الولايات المتحدة، خلافاً لما تصوره كتاباتٌ سياسية عربية في هذا الصدد، مولعةٌ بالبحث عن خصوم، وحتى اختراعهم. ما جعل أَردوغان قريباً من الرأي العام العربي، وما مكّن تركيا من أَن تصبح، بعض الوقت، عضواً مراقباً في جامعة الدول العربية. ولما كانت تركيا ترأس منظمة التعاون الإسلامي، فقد بدا أَن هذا البلد بات يتبوأ مركزاً متصدراً في العالمين العربي والإسلامي، والحديث يدور هنا عن الفترة بين 2005 و2011، والتي شهدت القرصنة الإسرائيلية ضد سفينة مرمرة التي حملت ناشطين أتراكاً، توجهوا، عبر البحر المتوسط، إلى ميناء غزة، وتعرضوا لعدوان إسرائيليٍّ، أودى بتسعة منهم، فتدهورت العلاقات الإسرائيلية التركية، وكانت تشهد، قبل ذلك، تراجعاً متواصلا، بسبب الاعتراض التركي على حصار قطاع غزة.
ليس ما تقدم من باب المنافحة عن حزب بعينه، أَو حكومةٍ بذاتها، أو زعيم سياسي إقليمي، ولا، بالطبع، عن الإسلام السياسي العربي، فكاتب هذه السطور أَقرب إلى التيار العلماني/ الليبرالي العربي العريض. ومنطلق الحديث، هنا، هو مقتضيات المصلحة العربية القومية، مصلحة كسب الأصدقاء، والحفاظ على صداقتهم في الإقليم، مصلحة كسب الرأي العام التركي، ومن دون التصاقٍ بحزب العدالة والتنمية دون سواه، بل، بإزجاء الثناء والتقدير لمواقف هذا الحزب، المنصفة تجاه القضايا العربية، على أَمل أَن تحذو أَحزاب وتيارات تركية أخرى الموقف نفسه، راهناً ومستقبلا، بما يحسّن ميزان القوى السياسي الإقليمي، ليصب في مصلحة الحقوق العربية، وفي صالح الجيران الأتراك، وتمتين علاقاتهم المتشعبة مع العالم العربي.
وفي القناعة، أَن المرحلة التي سبقت نتائج الانتخابات في كل مصر وتونس هي ما يستحق استلهامها، والبناء عليها والانطلاق منها، وتعظيم مخرجاتها. ولا يحسب المرء أَنها مرحلة مضت وانقضت، على الرغم من تطوراتٍ دراماتيكيةٍ في المواقف طرأت بعدئذ. فما زالت طريةً في الأذهان، ولم تبتعد بنا الشقة الزمنية طويلاً عنها. وليس من مصلحتنا بث رسائل إِلى الرأي العام التركي بأننا لم نحافظ على الصداقة التي نشأت، ولم نلاق اليد التركية الممدودة، بما تستحق من ترحاب.
صادفنا، أَول مرة، مع الدولة التركية، (أَول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل)، صداقة متينة، قوامها مقاربةٌ مشتركةٌ للتحديات الإقليمية، ترى تل أبيب وسياستها الاحتلالية التوسعية باعتبارها تشكل أكبر المخاطر على الإقليم. وشهدنا تراجع التعاون العسكري التركي مع تل أَبيب، فيما كان هذا التعاون، لعقود، يبدو كما لو أَنه جزءٌ من العقيدة العسكرية التركية. والسؤال، الآن، كيف انحرفت العلاقات العربية التركية عن مسارها، وأَين يكمن الخلل؟