تأسيس لمستقبلٍ أو لحظة عابرة؟

تأسيس لمستقبلٍ أو لحظة عابرة؟

16 يونيو 2015
صورة للمسرح البيضاوي في سينما في وسط بيروت (Getty)
+ الخط -
لا يتغاضى نقّاد وصحافيون سينمائيون عديدون عن مسألة أساسية، متمثّلة بأفلام التخرّج الطالبيّ، انطلاقاً من سؤال التدريس الأكاديمي المهني، وصولاً إلى علاقة الطلاب أنفسهم بالفن السابع قبل انتسابهم إلى المعاهد أو الكليات أو المدارس المتخصّصة بالسينما. الاهتمام نابعٌ من كون أفلام كهذه، المُلحقة بأفلام قصيرة أو وثائقية أو تجريبية (نظراً إلى سطوع نجم هذا النوع من الاشتغال السينمائي في العالم العربي منذ أعوام عديدة)، مؤشِّرٌ ما إلى مستقبل هؤلاء الطلاب المنصرفين إلى شؤون الصورة وشجونها، إما حبًّا بالفنّ السابع كصناعة وجماليات، وإما انسجامًا مع "موضة" تمنح الـ "سينمائيّ" امتيازًا ما في بيئته الضيقة، وإما اقتناعًا بأن دراسة فنّ الصورة طريقٌ إلى مزاولة أعمال أخرى لا علاقة لها بالسينما، كصناعة الدعايات والإعلانات وأشرطة الـ "فيديو كليب" والمسلسلات التلفزيونية.

أسئلة

أسئلة التدريس السينمائي الأكاديمي مفتوحة على أحوال المناهج الجامعية، أو تلك المتعلّقة بالمدارس المنتشرة بكثافة في لبنان مثلاً، إذ يفوق عددها حاجة البلد إلى متخرّجين من معاهد سينمائية، تماماً ككثرة عدد الكليات والمعاهد ذات الاختصاصات المختلفة. أسئلة تبحث في المستويات الأكاديمية ـ التعليمية ـ الثقافية لأساتذة تأتي غالبيتهم الساحقة من اشتغالات مهنية ميدانية، تتيح لهم امتلاك تراكم معرفي وعملي، إذ يحلّ هؤلاء الأساتذة مكان سابقين لهم -هم أساتذتهم أيضًا- لم يمارس معظمهم العمل السينمائي باختصاصاته المختلفة. أسئلة تبحث في علاقة الطلاب الوافدين بكثرة إلى جامعات ومعاهد ومدارس معنية بالتدريس الأكاديمي: إلى أي مدى يملك الطلاب ثقافة سينمائية وشغفًا حقيقيًا لصناعة الصورة؟ هل اختيارهم السينما كدراسة نابعٌ من رغبة عميقة وناضجة لاشتغال سينمائي بحت، أم أن هذا كلّه يأخذهم إلى عوالم أخرى؟ هل يُشاهدون أفلاماً، وما هو نوع الأفلام التي يُشاهدون؟ هل يكتفون بالأجنبي ـ الغربي المتداول تجاريًا على مستوى دولي، أم لديهم اطلاع على سينمات أوروبية وعربية وأفريقية وأميركية خارج حدود هوليوود؟ هل ينسجون علاقة وطيدة بينهم وبين السينما ثقافةً نظريةً وممارسةً عمليةً في آن واحد، أم يكتفون بمحاضرة من هنا أو تمرين عملي من هناك، كي يلتحقوا بسوق العمل خارج إطار السينما؟ وبالتالي، ألا تزال السوق السينمائية العربية قادرة على استيعاب أفواج من المخرجين والتقنيين والعاملين في شتّى المجالات السينمائية الأخرى؟ ما هي القِيَم الدرامية والجمالية والفنية والتقنية لأفلام التخرّج، التي يُفترض بها أن تبقى في إطارها كأفلام تخرّج، وفي الوقت نفسه أن تكون أشبه ببطاقة تعريف بصاحب فيلم التخرّج، تعكس شيئًا من علاقته بالسينما، وتُنبئ ولو قليلاً بمستقبله.

اقرأ أيضاً: هموم النشر، هموم المجتمع

في ختام الدورة الـ 12 لـ "مهرجان الفيلم العربي القصير"، التي يُقيمها "نادي لكل الناس" في بيروت بين الأوّل والخامس من يونيو 2015، يتحدّث المخرج السينمائي المصري داود عبد السيّد (1946) ـ رئيس لجنة التحكيم الخاصّة بالمسابقة الرسمية المعنية بأفلام عربية قصيرة وبأخرى طالبية ـ عن مشاهدته أفلاماً طالبية عديدة. يقول إن الأساسيّ كامنٌ في وجود عدد من الطلاّب الشباب الذين يدرسون السينما، ويُنجزون أفلامًا تتيح لهم التعبير فيها ومعها وعبرها عن أنفسهم. يُضيف أن لهؤلاء تقنيات من الواضح أنهم يتدرّبون جيدًا عليها، وأنهم يُحسنون استخدامها إلى حدّ كبير، فيصنعون بفضلها أفلامًا جيدة. لم يحدّد أفلامًا معيّنة، لكنه يرفض ربط هذه الجودة الطالبية الشبابية بفكرة "التأسيس لمستقبل سينمائي"، لأن هذا برأيه يتجاوز النتاج الخاصّ بالشباب، وهو ما يتوجّب على المهتمّين والمعنيين متابعته ومشاهدته. في حوار معه منشورٌ في الصحيفة اللبنانية اليومية "السفير"، يقول عبد السيّد إن أهمّ أفلام الدورة الـ 12 هذه "هي تلك التي يصنعها طلبة". يُضيف أنه مُعجب بها كثيرًا، وأن هناك أفلامًا غير طالبية مهمّة أيضًا: "هذا يجعلني أقول إن هناك مدارس وكليات سينمائية جيدة، وهذا مهم. هؤلاء يدرسون جيدًا، ويُقدّمون ما لديهم".
لن يكون "مهرجان الفيلم العربي القصير" المعنيّ الوحيد بالفيلم الطالبيّ. مهرجانات عربية ودولية متنوّعة مهتمّة بهذا المجال، على الرغم من قلّة عددها. المهرجانات هذه حيّز للاطّلاع، ومتابعة النتاجات الطالبية تفضي إلى القول إن مأزقًا كبيرًا تعانيه أفلام التخرّج، هو امتداد لمأزق التدريس الجامعي. لداود عبد السيّد رأي مناقض لهذا، مع اعترافه الواضح بأن مشاهدته محصورة باختيارات إدارة المهرجان فقط. لمهتمّين بشؤون السينما رأي آخر أيضًا: على مدى أعوام مديدة، يتابع كثيرون أحوال الطلاب وأفلامهم، عبر مشاركتهم بلجان تحكيم خاصّة بالتخرّج، أو بمشاهداتهم إياها في مناسبات مختلفة. يقولون إن المستوى متراجع بقوّة في الأعوام القليلة الفائتة، وإن عدد الطلاب المتحمّسين للفن السابع يقلّ عامًا تلو آخر، وإن "هوسًا" مُقلقًا يعيشه كثيرون منهم، متمثّلًا باطّلاع الغالبية الساحقة منهم على أفلام هوليوودية، وتجاهلهم أفلامًا وصناعات وتيارات سينمائية أهمّ وأعمق.

اقرأ أيضاً: ناصر الرّباط

مآزق أو إيجابيات؟

على الرغم من هذا، بل على نقيض هذا كلّه، يُشير البعض إلى أن الأعوام القليلة الفائتة تشهد اهتمام طلاب عديدين باختصاصات سينمائية مختلفة : التصوير، المونتاج، الإضاءة، الصوت، الموسيقى، فنّ الأزياء،وغيرها، بعد أعوام مديدة من الاهتمام الطالبي بالإخراج فقط. الاختصاص مهنة وصناعة وفنّ، يُتقن طلابٌ كثيرون مدى أهميته فلا يتردّدون عن التعمّق بمفرداته وقواعده ومناخاته وارتباطاته بالاختصاصات السينمائية الأخرى، فتنجح غالبيتهم في المجالات التي يختارون.
لا يلغي هذا الجانب الإيجابيّ سلبيات واضحة: كثرة المعاهد والمدارس السينمائية في لبنان مثلًا عاملٌ سلبي جداً في بلورة أفق سينمائي مبني على دراسات وتدريبات سليمة، في ظلّ غياب إنتاج سينمائي حيوي وناشط يُفترض به أن يبلغ مرتبة الصناعة المتكاملة. معظم الطلاب لا يملك ثقافة واسعة تتيح له التنبّه إلى العالم الذي يعيش فيه، محلياً وعربياً ودولياً. الـ "جرأة" المعتمدة في اختيار مواضيع حسّاسة ومهمّة للغاية تصطدم، أحيانًا، بغياب الـ "جرأة" على مستوى التنفيذ البصريّ ـ السينمائيّ، وأحياناً يحدث العكس. أي أن مواضيع كالذاكرة الجماعية للحرب الأهلية اللبنانية، والعلاقات العاطفية القائمة بين جنسين أو بين أناس منتمين إلى جنس واحد، والتمزّقات الاجتماعية، والانشقاقات الطائفية ـ المذهبية، وغيرها، لا تجد دائمًا ترجمة سينمائية سليمة لها، ناهيك عن مواجهتها رقابة السلطات العديدة المتحكّمة بالبلد وناسه.
في المقابل، يجد كثيرون في التجريب أسلوبًا في الاشتغال السينمائي، معتمدًا على تقنيات الكمبيوتر، وعلى مخيّلة خصبة بالصُور التي تعكس ارتباكات واضطرابات مشغولة بحرفية تقنية ودرامية وجمالية رفيعة المستوى. يذهبون إلى المختلف بصريًا، كي يسبروا أغوار ذات أو روح أو بيئة يُقيمون فيها. هذا جزءٌ من صورة عامة تخرج على مألوف تقليدي، كي تجعل من الصورة مرآة وحكاية.
إذاً، هناك صورتان متناقضتان تختزلان واقع أفلام التخرّج الطالبيّ: الإيجابيّ مرتبطٌ بحماسة واضحة لدى عديدين في استخدام الصورة واختبار تنويعاتها المختلفة، والسلبيّ كامنٌ في استخدام الدراسة السينمائية وسيلة لبلوغ ما هو غير سينمائيّ. التدريس نفسه يُعاني أزمة ثقافية ومعرفية، ويحتاج إلى مزيد من الوعي الجماليّ، وإلى تحطيم القيود الاجتماعية والتربوية المنقولة إلى داخل جامعات كثيرة، والمؤثّرة سلبًا على مناهج التدريس وآلياته. ذلك أن معظم الأساتذة يمنح طلاّبه ما يعرفه ويحسّ به وينتمي إليه، وهذا بقدر ما هو حسن إلى حدّ كبير، يحمل في ذاته ضررًا، خصوصًا إذا لم يتحرّر الأستاذ من تزمّته الثقافي والاجتماعي والفكريّ، ومن مزاجه السينمائي الذاتي. في المقابل، هناك سينمائيون متمرّسون بمهنهم الفنية والتقنية يُقدّمون أفضل ما لديهم في تواصلهم المباشر مع طلاب لا شكّ في أن بعضهم مهووسٌ بالسينما: الدليل على ذلك حاضرٌ في أفلامهم الأولى والثانية، التي تؤسّس فعليًا لمسار سينمائي أهمّ وأجمل. السوق السينمائية لا تحتمل هذا العدد الوفير من المتخرّجين، فإذا بمعظمهم ينسحب إلى شؤون فنية أخرى، تعاني أزمات عديدة هي الأخرى بسبب وفرة العدد أولاً وأساسًا.
لا يختلف واقع الحال العربي كثيرًا، على الرغم من أن الدول العربية الممتلكة صناعة سينمائية مثل مصر، وسوريا، وتونس، والجزائر والمغرب تحديدًا، تتشدّد في مسألة المعاهد والمدارس التعليمية، فتحصرها في معهد واحد تابع للدولة يُقدّم دراسة أكاديمية تمزج، غالبًا، النظريّ بالتدريبي، مع أن التجارب المختلفة تُثبت أن الطلاب المتحوّلين إلى سينمائيين ناجحين يستمدّون براعاتهم الفنية والثقافية من الاشتغالات الذاتية الخاصّة بهم.
عمر عامر
(كاتب لبناني)

المساهمون