بين الظلمات والأشعة!

بين الظلمات والأشعة!

19 أكتوبر 2019
+ الخط -
تعالوا إلى مشهدي الأخير، بعد آخر شروق لشمس أيامي، أرقد على سرير تعيس بمستشفى المعادي، على الطاولة المقابلة لسريري أربعة كتب، لم أجد في حياتي أقرب من كتاب؛ غرازيلا (فرنسي)، ليل حلمي التائه (إيطالي)، صورة دوريان غراي لأوسكار وايلد (إنكليزي)، وكتاب باحثة البادية. بعد قليل، ومع دقات العاشرة، شهقت شهقتي الأخيرة، وجحظت عيناي معلنةً ركوب قطار الراحلين؛ لأفارق عذابات الدنيا يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 1941.

لكنك إن شئت الدقة، فإنني ذقت الموت ألواناً وأشكالاً قبل هذا التاريخ، قبله بعامين على الأخص، إذ زارني ابن عمي الدكتور جوزيف زيادة، أعلم أنني قدمت ذكره على ذكري، وعرَّفت به قبل أن أعرف بنفسي؛ فإنه وكثيرين غيره أنزلوا أنفسهم منزلة المتحكم في مصيري، وارتأوا أن يغصبوني حق الحياة بغير ما مبرر، ونشداناً للراحة فإنني لن أنازعهم هذا السبيل.

أقبل جوزيف من لبنان بدعوى زيارتي، وأقنعني بالعودة، ولو مؤقتاً إلى بيروت، وهناك أودعني مستشفى "العصفورية"، مستشفى لا تختلف سمعته عن "العباسية" و"بهمان" و"دار أبو العزايم" للصحة النفسية، وسلبني حق الحياة قبل أن يزورني ملك الموت بعامين كاملين. سجنت في العصفورية تسعة أشهر، ولا أعلم من أوصل خبري إلى الصحافة، فثارت ريح الغضب وانتخت أقلام كثيرة، أقلام دافعت عني ونافحت، وأخرى بكتني بكاءً حاراً.
تحت وطأة الرأي العام، أخرجوني من العصفورية، لكنهم أودعوني مستشفى "رييز"، أقل سوءاً من سابقه، وأقصد بذلك من جهة تأثيره على نفسيتي، وبعد أشهرٍ نقلوني إلى غرفة قريبة من الجامعة الأميركية، ثم قدموا لي طعاماً ودهشوا مما فعلت. أول مرة في حياتي أتناول الطعام بيديّ مجردتين، لم أمسك الشوكة والسكين، وظل ذلك ديدني عامين متواصلين.

أذن الأطباء بإطلاق سراحي، وقرروا أنني لست مجنونة، وإنما تعتريني نوبات عصبية، واستضافني صديقي أمين الريحاني في الفريكة ثلاثة أشهر، لكن قلبي المنهك المكلوم حنَّ لأرض الكنانة؛ فعدت إليها وقضيت بها أيامي الأخيرة.
في لحظات المحن، لا يتقرب إليك إلا من أحبوك بصدق، هؤلاء لا يختلقون أعذارًا رخيصة، ولا يتوسلون بالظروف وضغوط الحياة لينعتقوا منك، إنما لهم عذر مقبول بكل معاني الكلمة، عذر أن يبتلعهم الرحيل المُمِضّ.



في هذه الأثناء، لم يتخلف عن زيارتي طاهر الطناحي، كان يزورني مساء كل أحد، وكانت تزورني الأديبة الصديقة إيمي خير، والدكتور طه حسين، وبركات بركات، وخليل مطران، وفيلكس فارس إلى أن فجعت فيه، والريحاني حتى بلغني نبأ رحيله، وكان آخر ما كتبت بيدي نعيه.

لعلَّك عرفتني، أو سمعت اسمي عفواً في بعض المجالس الأدبية والصالونات الثقافية؛ فاسمي الأدبي الآنسة مي زيادة، ولي أسماء أخرى سيأتي ذكرها، فتاة أدمنت العزلة والقراءة وجبلت على حب الأدب، وقد علمت خواتيم قصتي؛ فما رأيك أن تلمّ بطرف من بداياتها؟!

على أرض قرية الناصرة الفلسطينية، يخطو رجل لبناني ينتمي إلى قرية شحتول بقضاء كسروان، ويدعى إلياس زخور زيادة، يعمل مدرساً بمدرسة الناصرة الابتدائية، وفي بعض أيامه العادية تعرَّف إلى سيدة فلسطينية من أصل سوري، اسمها نزهة خليل معمّر، تحفظ ديوان ابن الفارض ومئات الأبيات الشعرية، فوافق شنٌ طبقة.

تزوجا بعد مدة، وتحركت في أحشاء نزهة علامات الأمومة، وأنجبت ماري وطفلاً آخر لم ينعم بالحياة طويلاً. ولدت - أنا ماري المدللة، ووحيدة أبويها على قولهم ودلوعتهما كما جرت العادة - يوم 11 فبراير/شباط 1886.

في سن السادسة، التحقت بمدرسة الراهبات اليوسفيات بالناصرة، وفي سن الرابعة عشرة انتقلت إلى عينطورة اللبنانية، وفارقت أمي على غير ما توقعت، والتحقت بمدرسة الزيارة، وهناك بدأت رحلتي مع الكتابة، وكتبت - دونما ترتيب مسبق - خواطري، واخترت اسماً مستعاراً دوّنت به تلك الخواطر؛ فسجلتها تحت عنوان (من يوميات عائدة).

تركت عينطورة إلى بيروت سنة 1904، والتحقت بمدرسة الراهبات العازاريات، وقتها قرأت لجورج صاند ومدام دي ستال ومدام سيفينيه، وعدد من الشعراء، في طليعتهم لامارتين، كورني، شيلر، شيلي وبيرون.
جاء عام 1907 لتتغيَّر حياتي بكل ما تحويه الكلمة من تغيير. انتقلت أسرتنا الصغيرة إلى القاهرة، يومها كنت نسياً منسيّا بين أهل مصر، وبدأت عملي مدرسة لأبناء رجل من أثرياء القاهرة، أتذكر اسمه جيداً؛ إنه إدريس بيك راغب، ولما تحدَّث إليَّ غير مرة وراقه أسلوبي في الكتابة والحديث، وهبني جريدة المحروسة ومطبعتها سنة 1909، وأُسندت إلى والدي إدارة المحروسة، واستكتب فيها عدداً من الأقلام الواعدة؛ فكانت نقطة انطلاقي الأدبية ومنبراً أدبياً جذب إليَّ أنظار أدباء مصر والعرب.

توزعت حياتي بين الدراسة والمطالعة، وأفدت من إجادتي بعض اللغات، منها الفرنسية والإنكليزية والإسبانية، ثم تعلمت الألمانية في شتاء القاهرة الساحر، وترجمت الحب الألماني لماكس مولر وخلعت عليه عنوان "ابتساماتٌ ودموع"، وأصدرت باكورة أعمالي الأدبية سنة 1909 في ديوان شعري باللغة الفرنسية أسميته "أزاهير أحلام"، ولم أضع اسمي الحقيقي، واستعضت عنه باسم مستعار "إيزيس كوبيا"، وأهديته إلى شاعري المفضل لامارتين.

اخترت "إيزيس كوبيا" لأن إيزيس زوجة أوزوريس تعبِّر عن العذرية، وأنا آنسة لم أتزوج بعد - وبالأحرى عدلت عن فكرة الزواج - وكوبيا ترجمة زيادة في اللغة اللاتينية. ذاع صيت الديوان، وتساءل الناس عن كاتبته المبدعة، ولم أجد مفراً من الخروج إلى دائرة الضوء، ومن يومها وأنا أكتب باسمي الأدبي المعروف للجميع، مي زيادة.

حفزتني باحثة البادية كثيراً، وناشدتني امتشاق القلم العربي، والتعبير عن كل ما يجيش في صدري، بل وفي صدور نساء العالم العربي أجمع؛ فكتبت عدداً من الكتب من بينها كتابي "باحثة البادية"، تقديراً لملك حفني ناصف لا تملُّقاً كما يزعم المتخرصون، وأبلغ دليل على ذلك أنك رأيت الكتاب نفسه إلى جوار جسدي المسجى.

اتسعت دائرة معارفي الأدبية في القاهرة، وافتتحت أول صالون أدبي شعبي عرفه العرب في العصر الحديث؛ فقد عرف العرب في الجاهلية صالونات أدبية مرموقة، على رأسها صالون أم جندب وقد حكَّمت بين امرئ القيس وعلقمة الفحل، ونقدت زوجها وحكمت لعلقمة دون تحيزٍ لزوجها، وتحملت تبعات هذا الحكم إذ طلَّقها امرؤ القيس، ثم دارت الأيام وظهر صالون سكينة بنت الحسين ونقداتها الأدبية لجرير بن عطية وغيره، ثم التمع اسم ولادة بنت المستكفي في الأندلس.

لكن العصر الحديث شهد صالون الطبقة العليا، صالون الوجهاء وعلية القوم، ومثَّله صالون الأميرة نازلي فاضل، وتردد عليه مثقفون عرب وأوروبيون كُثُر، منهم الإمام محمد عبده، سعد باشا زغلول، قاسم أمين، محمد المويلحي (المويلحي الصغير)، وصالون الأديبة السورية المقيمة بالقاهرة ماريانا مراش، وصالون أسسته ليخدم الحركة الأدبية قدر استطاعتي، وقد بذلت فيه غاية نكيثتي.

اخترت يوم الثلاثاء من كل أسبوع لانعقاد الصالون، يبدأ الزوار في القدوم مع دقات الرابعة مساءً، يدخلون إلى باب عن يمين المدخل، يجلسون على الكراسي العربية المريحة، ويُنعمون النظر في اللوحات المزينة لجدران الصالون، وربما يتقدم أحدهم ليعزف مقطوعة على البيانو. بعد قليل، تدخل أمي بالقهوة العربية ورائحتها الأخاذة، ومعها ماء الورد والسكاكر تحيةً لزوار الصالون، وبعد برهة أدخل إليهم مرحبة بهم، وأجلس إلى جوار ضيف الصالون احتفاءً به، ثم يتبارى الحضور في تقديم مداخلاتهم إثراءً للموضوع واستثارة لنقاط تحتاج لإيضاح أو استزادة.

لعلَّ ذاكرتي تسعفني في سرد بعض الأسماء؛ فأذكر مثلًا أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، مصطفى عبد الرازق، خليل مطران، إسماعيل صبري، شبلي شميِّل، ولي الدين يكن، داود بركات، جورجي زيدان، يعقوب صروف، أحمد حسن الزيات، عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، فارس نمّر، خليل ثابت، أمير الشعراء أحمد شوقي، أنطون الجميّل، قاسم أمين، الإمام محمد عبده، إيمي خير، أمين الريحاني، والدكتور طه حسين.

أذكر كذلك أن طه حسين كان يتوق للتعرف إلى الصالون ورواده، إذ كان يومها طالبًا بالجامعة، وأن العقاد ألحَّ على صديقه إبراهيم عبد القادر المازني ليحضر معه مرتين، ولما حضر لم ينطق بكلمة واحدة، وتفهمت أنه يرهب الحديث أمام الناس، وكنت قبلها قد أهديته كتابين لي "ابتسامات ودموع"، و"ظلمات وأشعة"، لكنه لم يكتب عنهما حرفاً واحداً ولم يخبرني حتَّى برأيه ولو شفهياً!

ولتسامح ضعف ذاكرتي، فإن المرء إذا مات فقد ذاكرته على الأرجح، ولذلك فإنني لا أذكر أين موقع الصالون على وجه الدقة، وستقرأ أنه كان في شارع مظلوم، وسيخبرك بعضهم أنه في شارع المغربي رقم 28، وسيحلف فريق أنه في شارع رشدي - وسط البلد، المهم في كل ذلك أن البيت قد اندرس، ولم يعد طللاً يقال فيه مقالة ذي الرُّمَّةِ - غيلان بن عقبة - (يا دار ميَّةَ بالعلياءِ فالسندِ/ أقوت وطال عليها سالفُ الأمدِ)، بل إن البيت تحول، وبقدرة قادر، إلى محطة بترول التعاون!

قرأت لناسك الخروب، ميخائيل نعيمة، مقالة جاء فيها: "خلقت لأكون أخاً للمرأة لا بعلاً لها"، ووقعت كلمته في نفسي، إذ وجدت في نفسي ميلاً للعزلة المؤطرة بسياج الصداقة، لا العزلة المرضية الموحشة، وقيل لي إن الصحافي الفكه كامل الشناوي وضع كتاباً عنوانه "الذين أحبوا مي"، ذكر منهم عدداً عديداً من الأدباء، على رأسهم ولي الدين يكن والعقاد وآخرون، وأحتفظ لنفسي بحق الرد لاحقاً إن سنحت السوانح.

ومع ذلك فإنني أذكر إلمامة من علاقتي بجبران خليل جبران، إذ قرأت له مقالاً عنوانه "في مثل هذا اليوم ولدتني أمي"، وحاز إعجابي بكلماته المؤثرة وعباراته المنتقاة، ولا أدري كيف أقنعت نفسي بالكتابة إليه، ولم أسمع لصوتٍ داخلي نهرني عن ذلك مراراً. يومها، وهذا تحليل بعضهم وليس من كيسي، كان جبران في منحنى متأزمٍ مع ماري هاسكل، الأميركية الموسرة التي وضعت أموالها تحت قدميه، وأفاد منها في السفر إلى باريس لتعلم الرسم والتصوير، ويبررون أن هذا وحده سبب رده عليَّ، لكنني لا أعير هذه التفسيرات اهتمامي.

ما يعنيني أنه قد ردّ على رسالتي، ثم تواترت الرسائل بيننا، هو يكتب من أميركا - من بوسطن أو نيويورك - وأنا من القاهرة، وتواصلت مكاتباتنا بمعدل مرتين شهرياً. دعوته لزيارة مصر، لكن ظروفه الصحية حالت دون ذلك. وفي سنة 1913، حدث أن أهدى الخديوي عباس حلمي الوسام المجيدي إلى صديقي الشاعر خليل مطران، ودعا سليم سركيس شعراء العرب على بكرة أبيهم لحضور تكريم مطران في بهو الجامعة المصرية.

تقاطرت الوفود للتهنئة من ربوع العالم العربي، وأرسل جبران رسالة تهنئة عنوانها "الشاعر البعلبكي"، واقترح سليم سركيس أن ألقي كلمة جبران نيابةً عنه؛ ليضمن مشاركة عنصر نسائي في التكريم، ودعماً لمواقف المرأة المصرية في ميادين الحياة كافة. في بداية الأمر، ترددت طويلاً، وركبتني موجات من التوتر، لكن والدي شجعني وشدّ على يدي، وتحمست للأمر ثم صعدت المنصة، وبعد أن تغلبت - نوعياً - على خوفي ورعشة يدي، ألقيت خطاب جبران، ثم شرعت في إلقاء خطابي، وقوبل أدائي باستحسان لم أتوقعه قبلاً، حتَّى نهض الأمير محمد علي رئيس الحفل، وسلَّم عليَّ وأثنى على طريقة إلقائي المتفردة، حسبما قال.

دخلت الجامعة المصرية، وكان زميلي - الدكاترة لاحقاً - زكي مبارك، ولسببٍ لا أعرفه كان يكرهني، ومضت حياتي في أنشطة متواصلة، أنجزت فيها 17 عملاً أدبياً يحضرني منها سوانح فتاة، كلمات وإشارات، ابتسامات ودموع، المساواة، الصحائف، بين الجزر والمد، ظلمات وأشعة، رسالة الأديب، باحثة البادية، وردة اليازجي، عائشة التيمورية، غاية الحياة، الحب في العذاب وغيرها.

كتبت في عدد من الصحف المصرية مثل الأهرام والهلال والمقتطف والمؤيد والمتقدم، ناهيك بجريدة المحروسة، وفي خضمّ هذه الفورة الأدبية، فقدت أبي سنة 1928، ومن بعده لحقته أمي عجلى، ثم صديقي يعقوب صروف، وبعد قليل أسرع إليهم جبران سنة 1931، فانهارت قواي وأظلمت البيضاء.

ساعتها، قررت أن أضع حداً لحياتي، فحاولت الانتحار وفشلت، وجاء ابن عمي - لعلَّك تذكره وقد ألقى بي في العصفورية - ليقتل ما في نفسي من وشائج القربى، ويُجهز على ما بقي من نفسي بطريقة جادة وحادة. بعد أن عدت إلى أم الدنيا، كتبت: "أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأوداتي، وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بتفكيري كله إلى المثل الأعلى، وهذه المثالية التي عشتها لم تسمح لي بالاطلاع على ما في البشر من دسائس".
إن كان أصدقاء الطبيب المجري إيغانز سيملويس (1818-1865) وزملاؤه من الأطباء، قد أودعوه مستشفى الأمراض النفسية، وزعموا أنه مجنون ثم أوصوا السجانين بأن يقضوا عليه، فنفذوا عملهم بدناءة منقطعة النظير، وأسلموه لمصيره المحتوم رغم أنفه، فإن بعض أقاربي قد فعلوا بي الشيء نفسه، وأراني أردد مع الشاعر العربي القديم "أقاربك العقارب في أذاها"، وتنزوي آمالي شيئاً فشيئاً قبل العاشرة صباح التاسع عشر من أكتوبر تشرين الأول 1941، وتتمة الخبر بين يديك.

دلالات