بورقيبة "الحداثي"

بورقيبة "الحداثي"

08 ابريل 2015
+ الخط -
في الذكرى 15 لوفاته، قد يلومنا كثيرون على نقدنا العميق الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، وخصوصاً البورقيبية. وقد لا يقبل منا عديدون رفضنا وتصدينا لموجة البورقيبية التي اكتسحت العقول، السنتين الأخيرتين، بعامل الدعاية الإعلامية والسياسية والتزييف الواسع. وقد يستاء بعضهم من أصحاب النيات الحسنة والمشاعر النبيلة، وأيضا ممن يبحثون عن أُبُوَّة وجدوها في شخص جمع بين الكاريزما والخطابة والزعامة والفكر والسلطة المطلقة خاصة. ولكن تفكيك الظاهرة ضروري لفهم الواقع والوعي بالمغالطات.

أولاً، لا نكاد نفهم أن من تنكروا لبورقيبة، بل وانضموا لمن حاربه ونفاه وحاصره وسجنه ومارس عليه العنف المادي والنفسي والرمزي، أصبحوا، اليوم، في الصفوف الأولى لإحياء ذكرى وفاته، كما في ذكرى ميلاده، وأصبحوا يرفعون اسمه وصورته وأفكاره وشعاراته.
تدرك الأغلبية أن ذلك كان استثمارا في البورقيبية، إما لكسب شرعية، بعد أن سلبتهم الثورة مواقع نفوذهم وامتيازاتهم التي غنموها من ارتباطهم بالمخلوع بن علي، أو لتحقيق مكاسب سياسية، بخلق رأس مال رمزي، يمكن به تحقيق استثمارات سياسية عالية القيمة، الباجي قائد السبسي وحزب نداء تونس أبرز نموذجين.
نحن طبعا ضد التوظيف السياسي، والتجارة بمشاعر العباد لكسب تأييدهم عبر المغالطة، كما أننا ضد الارتقاء بالأشخاص، مهما كانت قيمتهم ومنجزاتهم ورمزيتهم، إلى مرتبة التقديس وإحداث صنمية للعبادة والتسليم.
ونقد بورقيبة الحقيقة ليس نابعاً من تحامل على توجه الرجل، وإنما من منطلق رفض منطلقاته، التي لا تكرس حرية الإنسان، ولا تبني إرادته، ولا تجذر هويته واستقلال وطنه وخياراته وثقافته.
وأي معنى لاستقلال لا يمنح الحقوق المختلفة، بما فيها المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمواطن، ولا يضمن له حريته؟ فبورقيبة كان يسبّق زعامته وقيادته واسمه على أفكار وآراء شعبه، وحتى مقربيه وشركائه في الحكم، حتى اختزل الدولة في شخصه، ونصّب نفسه رئيساً مدى الحياة، وتصدى لكل من عارضه، وخصوصاً من الحساسيات اليسارية والعروبية والاسلامية، ونكّل بخصومه السياسيين، بعد أن ألبسهم بهتاناً صفات "التمرد" وحتى "الخيانة".
انطلق بورقيبة بعجز فادح في الاستقلال، بتبني خيار الانصهار الثقافي في المنظومة الفرنكفونية، وفرض هذا الخيار، واختار منهج التصفية لكل من خالفه، سواء في فترة التفاوض مع المستعمر على الاستقلال، أو بعد 1956. وبورقيبة، أصلاً، صفى الخيار المقاوم الذي كرسه "الفلاقة" المقاومون الذين وجهوا ضربات قاسمة للمستعمر منذ سنة 1952، وزعزعوا استقراره، خصوصاً مع تصاعد نسق المقاومة في الجزائر، وثقل كلفة الاحتلال التونسي والجزائري، وما بقي من اليوسفيين (أنصار صالح بن يوسف)، فتمت تصفيتهم غداة الاستقلال وفي أوائل ستينيات القرن الماضي.
تبعية ثقافية لفرنسا تفوق الاستعمار المباشر كرست التخلف وشخصية تونسية مغتربة ومستلبة. واتفاقيات اقتصادية سلبت ثرواتنا الطبيعية والمنجمية والنفطية، وخصوصاً نشر المستعمر "نخباً" أكاديمية واقتصادية وفي الحكم وثقافية، وفي الإدارة، وفي الأمن في تبعية مباشرة له، مما جعله يحكم في تونس بكلفة أقل بكثير مما كان يتكبده في أثناء الاحتلال.
لم يبن بورقيبة مواطناً بإرادة وحرية وثقافة أصيلة، فالهوية العربية الإسلامية كانت في مقدمة الواجهات التي جابهها، كما أن التعليم لم يكن مجدياً، ولم يخلق نهضة، وكان، في أغلبه، عقيماً لم يقدنا سوى إلى الأزمات والانهيارات الاجتماعية والاقتصادية. كان تعليماً بسرعتين مختلفتين بين الفئات والجهات.
والاختلال بين الفئات والجهات كان أبرز ما خلفه بورقيبة، جهات مسحوقة، وفئات مقصية، وطبعاً الحكم كان لفائدة مكونات النظام الذي يعتمد على فئات وجهات وشبكات بعينها، أما البقية فهم الهامش الذي يعطى له الفتات والحد الأدنى لاستمرار الحياة.
BDD9CC42-D4D7-458B-BAF4-3A664E21B438
BDD9CC42-D4D7-458B-BAF4-3A664E21B438
شكري بن عيسى (تونس)
شكري بن عيسى (تونس)