بلاد لا تحمل أهلها

بلاد لا تحمل أهلها

06 أكتوبر 2014
مهاجرون يحملون علم لبنان في البرازيل (أرشيف GETTY)
+ الخط -
هناك يطلقون عليها اسم "البْلاد". يتحدّثون بشغف عن طعم الخبز الساخن واللوز الأخضر. عن درس القمح تحت أشعة الشمس. عن مواسم العنب والتين في آب. عن قطاف الزيتون في تشرين. عن رسائل أحبّة كانوا يجتمعون لقراءتها مساء ودموع ذرفوها مراراً.
هناك، تغيّروا كثيراً. تأقلموا مع البلاد التي أعطوها عمرهم وتعبهم، وأعطتهم الأمان والاستقرار. لكنّ دموعهم لم تجفّ يوماً، و"البْلاد" التي حملوها معهم، لم تغادرهم أبداً. لا تفارقهم الغصّة. في كل حوار، تحضر "البْلاد" من دون استئذان.
يعود الزمن بهم عقوداً إلى الوراء. كأنه الأمس، يستعيدون لحظات الوداع. اللحظات التي ارتدوا فيها للمرة الأولى حذاء جديداً وثياباً جديدة وانطلقوا أطفالاً نحو مجهول بعيد. يستعيدون لحظات الوصول المرّة. يتذكّرون الوعد الذي قطعه معظمهم على نفسه: سأجمع ثمن بطاقة السفر وسأعود.
هنا، تغيّر كل شيء. الأحوال والعائلات والعادات، حتى مواسم الخير لم تبقَ كما عهدوها. لكنّهم كلما أسهبوا في الذكريات وحملهم الحنين، كلّما غرقت في صمتي، ووجدتني أقول في سرّي: كيف يمكن لأحد أن يتعلّق بهذه البقعة الملعونة من الأرض؟ كيف لهم أن يتمنوا إقلاعاً عكس الزمن؟
أتنفّس شهيقاً ثم زفيراً. أعود إلى لبنان، أفكّر بزحمة السير الخانقة، بفاتورة المولّد الكهربائي، بالمياه المقطوعة، بسندات المصارف، بجارنا الحشري، بالحروب الصغيرة والكبيرة التي لن تنتهي.
أتنفس عميقاً من جديد. أعود إلى البرازيل. أستعيد البحور الخضراء، وقطعان البقر المشلوحة فيها. حقول البنّ والذرة. الطرق الممتدة إلى الأفق من دون اعوجاج. الأنهر المنتشرة في كل مكان. الوجوه الباسمة أينما توجّهت.. أفكر بالرفاهيّة، بالهدوء والاستقرار، بتحقيق الأحلام الورديّة.
وأنا أتنقّل بين وجوههم المتعبة والمسكونة بحنين يبدو مضنياً، تنهمر عليّ الأسئلة. يسألونني عن مدرّس شهير في زمنه لم أسمع به يوماً، عن كاهن القرية الذي توفي قبل ولادتي، عن بستان الزيتون الذي باعه والدي منذ زمن طويل، عن حقول القمح التي بالكاد أذكرها، عن عادات العيد التي مرّ عليها الزمن.. عن خوابي الزيت التي حلّت براميل البلاستيك مكانها.
أصمت من جديد. أخيّب آمالهم بشأن أجوبة أرادوا سماعها. أظنّ لوهلة أنّهم يسألونني عن مكان آخر، لم يعد موجوداً إلا في ذاكرتهم.
أفكر بعائلتي، بأصدقائي، بالأماكن التي أهرب إليها كلما ضاق الأفق أمامي. يحضر الفرح الذي رافقني وأنا أوضّب حقائبي، ومذاق حلم الهجرة الذي لطالما راودني. يتنهّد عمي بقربي، أحدّق في عينيه خائبة، قبل أن يقترب منّي قائلاً: "يلعن البْلاد اللي ما بتحمل أهلها".

المساهمون