برماليون..الوجه بوصفه نصّاً مفتوحاً

برماليون..الوجه بوصفه نصّاً مفتوحاً

24 اغسطس 2020
"موقعة الجمل" (من المعرض/ تصوير: عمار القماش)
+ الخط -

في معرضه "ملحمة الوجه" المُقام حالياً في "غاليري كراج - مطافئ" بالدوحة بالتعاون مع "معهد الدوحة للدراسات العليا"، والذي يضمُّ قرابة أربعين لوحةً تتراوح أساليبها بين التكعيبية والسوريالية والتعبيرية والتجريد، يبحثُ التشكيلي والباحث المصري عبده البرماوي، المعروف باسم برماليون، عن مَخرجٍ جمالي يُعبّر من خلاله عن تشظّي الإنسان العربي وضياع وجهه، الذي كشفته لحظة الربيع العربي. كما نجدُ في اللوحات رفضًا لعزل حركة الفن عن مسار غضب العمل الجماهيري، كما عبّر نظريًا في دراسته "خربشة وجه السلطة: الآرتيفيزم وجماليات الغضب في مصر"، فهو ينتقدُ التفسيرات الإستطيقية التي تعزل اللوحات عن بعدها السوسيولوجي، وبالمقابل ينتقدُ الرمزية المبالَغ فيها في التفسيرات الفنية التي تُحمّل الرسوم ما لا تحتمله، مشوّهةً معانيها الجلية.

في التنقّل بين لوحات المعرض الذي انطلق في آذار/ مارس الماضي ثمّ توقّف بسبب فيروس كورونا قبل أن يُعاد افتتاحه مجدّداً، يتعدّى الأمر مجرّد المشاهدة العابرة، بل يجري تلقائيًا نوع من الحوار بينك وهذه الوجوه/ الكائنات، لتستحيلَ أنت اللوحة بينما تُحيطك هي، فهي لا تنفكُّ عن التحديق والسؤال عن معنى الوجود؛ وجودها هي في الأصل، لتجعلك تتساءل أيضًا عن ماهية الوجود، وتبحثُ عن ذاتك ووجههك كعربيٍ خَفِي. حيث تظهرُ لوحات برماليون كمرايا - رغم أنه يؤمن بأنّ المرآة بحدِّ ذاتها باتت أبعد عن الحقيقة وتعجز عن تَصويرنا - فبدءًا بلوحة "رعاياك" التي تُمثّل وجه المعرض الظاهر، وحتّى "بيضة الزمان" التي يُفكّر الفنانُ بتدميرها لشطبِ موضوعها من مخيّلته، تجدُ في كلِ واحدةٍ من اللوحات شيئًا من عُطب ذاتك وتشظّيها، بحيث صارت مُتذرّرةً للدرجةِ التي يَصعبُ على إطارٍ واحدٍ جمعها. 

يرفض عزل حركة الفن عن مسار غضب العمل الجماهيري

يصفُ قيّم المعرض الناقد إسماعيل ناشف أعمال برماليون بأنها تتغيّا المعضلة الوجودية القائمة بين الفرد والسلطة: "يتوسّل برماليون الوجه لينقل لنا صورةً محوَّرةً لتلك الملحمة الناشبة بين الفرد الساعي لحريته، والسلطة التي لا تفتأ تقمعه بشتى الأشكال وبمختلف الأساليب. في خضم هذه الملحمة يتحوّل الوجه ويأخذ أشكالًا مختلفة؛ إذ نجده أحيانًا يتفكّك، وأحيانًا أُخرى ينتفخ، وفي ثالثة يتشوّه، وقد يستحيل مجرَّد قناع".

الصورة
برماليون

فالوجه بحسب إرفنغ غوفمان هو "القيمة الاجتماعية الإيجابية التي يدّعيها شخصٌ لنفسه من خلال الخطّ الذي يفترض الآخرون أنّه اتخذه خلال تماس معيَّن"، وفي لحظة الاشتباك من نقطة صفر مع لوحات برماليون، يختفي هذا الخطِّ الفاصل، ليغدو الكلُّ وجهًا وقناعًا لبعضهم البعض. وبعيدًا عن هذه الأشكلة، تظهرُ الوجوه كاستدعاءٍ لذكريات الطفولة المُلتبسة في بعض أعمال برماليون.

وإلى جانب الوجه كعنصرٍ مركزي في اللوحات، يُعرّف برماليون الشخوص بعيونهم، ومنها ينفذُ إلى دواخلهم، بوصفها مفتاحًا، فالعين كموضوعٍ وهيئة تتجاوز دورها الوظيفي في الإبصار، بل هي مرآة للمرآة نفسها، وإجابة عن سؤالات البحث عن المعنى، والإجابة هنا يُمكن أن تنتفخ وتُحدّق وتُصاب بالذهول، بل وأن تسقط وتتكسّر، وتغيبُ رُبما كما في الأقنعة. ويأتي في هذا السياق سؤال ناشف: "كيف يمكن للعين أن تقود الوجه في مواجهة السلطة؟"، والذي يَعتقدُ أنّ "ملحمة الوجه" أجابت عليه، بأنّه "باجتماع العيون يتفتحُ البصر على مدى الرؤية، وتطرح البصيرة رؤىً جديدة". وما هو مُشترك في أعمال برماليون - أو عيون شخوصها بالأحرى- هو رفضها للنظم المُهيمنة التي تحاول تنميط الإنسان وتشكيل أو إعادة تشكيل هويته، بدءًا بنُظم العمل إلى نظم الدراسة إلى السياسة والعلاقات الاجتماعية، فالعيون هنا ترفضُ التماهي مع هذه النُظم والاستسلام لها، وترمي إلى استعادة حقيقة الوجه ونزع قناع الواقعية المشوّه عنه.

يُعرّف الفنّان الشخوص بعيونهم ومنها ينفذُ إلى دواخلهم

وبتوقّفنا عند بعض الأعمال، نجدُ أنّ برماليون يتّفقُ في لوحة "القربان" مع أمبرتو إيكو (1932 - 2016) في أنّ القبح ليس نقيضًا للجمال، بل يملكُ غاياته الاستطيقية المُستقلّة تمامًا، فالموت والعنف والخوف والدم الذي يحضرُ في لوحاته يساوي الإنسانية نفسها، فأعماله ترفضُ تأدية الدور الوظيفي الجمالي الذي يزعمه البعض للفنّ، بل هو حالة نقاش مستمرة لهذا الوجود كلّه.

الصورة
برماليون

وفي لوحة "موقعة الجمل" المُربكة، نجدُ تأريخًا لموقعة الجمل في ميدان التحرير بالقاهرة عام 2011، والتي تشبه معارك العصور الوسطى، وهو في هذا العمل ينتقدُ سردية الإعلام التي أظهرت أنّ كارهي الثورة هاجموا الثوريّين، ليقول إن الطرفين ضحايا، وعلينا ألّا نلوم الضحايا، وكلّ مَن في المشهد ضحايا حتّى الجِمال الساقطة على أجنابها. أمّا لوحة "مقهى الأقنعة"، فتعودُ بالزمن إلى "مقهى زهرة البستان" بوسط البلد في القاهرة، الذي تردّدَ عليه برماليون لفترةٍ من حياته وتفاعل فيه مع العديد من الفنّانين والمثقّفين والأدباء والصعاليك، وتبرزُ في اللوحة امرأة شريدة وُصفت بالمجنونة، كانت من روّاد المقهى.

ورغم هربه من السياسة، نلمحُ في لوحة "بيضة الزمان" هيئة للجنرال المصري المستبدّ الحالي. نحنُ أمام وجه متوَّج يُخفي في ملامحه زنازين ومعتقلين، كما تُظهر ملامح الوجهِ بلاهةً، فهذا الجنرال يُلخّص لحظةً غريبة جعلت من التفاهة صنمًا معبودًا فوق الدولة. أمّا لوحة "رعاياك" فترتبطُ بواقعة سَجن الفنان التشكيلي المصري عبد الهادي الجزّار (1925 - 1966)، إثر رسمه لوحته "الجوع" (1948) التي تُظهر بؤس حياة المُهمّشين وتفضحُ النظام الملكي، والتي أرفق معها عبارة "هؤلاء هم رعاياك يا مولاي"، ليسألَ برماليون إن كنّا ما نزالُ نبحث عن قوت يومنا، أم عن ذواتنا وهويّتنا وحريتنا ووجهنا؟ في حين تخبرنا لوحة "ياسمين" بحكاية عازفة عود شابّة اختطُفت من ميدان التحرير وتعرّضت لعنف جنسي مهول، وتظهر فيها التفاحة التي تعكسُ ضِعةً لا رغبة، ووجهًا مُحايدًا فاق العنف قدرته على الاعتراض أو الصراخ، ومصباحًا مضيئًا في أعلى اللوحة، إشارةً إلى ديمومة فكرة الحق والتّحرر.

الصورة
برماليون

 


بطاقة
منذ توقيعه جداريات غرافيتي رسمها في شارع محمد محمود بالقاهرة بين سنتَي 2011 و2013 في ظلِّ احتدام أحداث هذا الشارع، اتّخذ الفنّان التشكيلي والباحث المصري عبده موسى البرماوي من "برماليون" اسماً فنّياً له، وقد دمج لقبه العائلي مع الأسطورة الإغريقية "بيغماليون" التي تحكي عن نحّاتٍ وقعَ في حبِّ تمثالٍ صنعه على هيئة امرأة جميلة، أحيتهُ له إلهة الحب فينوس في عيدها.

المساهمون