لم تستفق الأحزاب التونسية بعد من مفاجأتها من قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد تعيين وزير الداخلية الحالي، هشام المشيشي، رئيساً للحكومة خلفاً للمستقيل، إلياس الفخفاخ. وكما كان منتظراً، راوغ سعيّد الجميع، وتجاهل الشخصيات الـ21 التي رشحتها الكتل البرلمانية كتابياً لهذا المنصب بطلب منه، ما يعني أنّ هذا الإجراء كان شكلياً لا غير وأنه كان مقرراً منذ البداية تجنبها جميعاً، والبحث عن شخصية قريبة منه، تجعل السلطة التنفيذية (رئاسة البلاد ورئاسة الحكومة) موحدة القرار، وبعيدة عن مشاكل البرلمان، على الرغم من تأكيد احترامه للشرعية "ولكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيراً صادقاً وكاملاً عن إرادة الأغلبية"، على حد تعبيره.
ولكن الوصول إلى اختيار المشيشي جاء بعد مشاورات كثيرة، لم تثمر أغلبها عن الاتفاق على اسم المرشح، بداية بوزير الدفاع عماد الحزقي ووزير الشؤون الاجتماعية محمد الحبيب الكشو ووزير العدل الأسبق محمد صالح بن عيسى. ولم يكن اسم المشيشي مطروحاً بقوة، وإن كان من بين الشخصيات التي طرحت ليل الجمعة. ولم يتم الفصل إلا مساء السبت، بعد أن اعتذرت أغلب الشخصيات المذكورة عن المهمة.
ستكشف أولى تحركات المشيشي عن نواياه ونوايا الرئيس بخصوص مستقبل المشهد السياسي وتصورهما للحكم
وستكشف أولى تحركات المشيشي عن نواياه ونوايا الرئيس بخصوص مستقبل المشهد السياسي وتصورهما للحكم؛ فهل تكون الحكومة المقبلة حكومة أغلبية تشرك أغلب الكتل وتحقق حداً أدنى من التوافق، أم حكومة الأغلبية النسبية الجديدة (النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وكتلة المستقبل)، أم حكومة بلا "النهضة"، أم حكومة كفاءات خالصة من مستقلين يدعمها البرلمان؟
وجاءت ردود فعل بعض الأحزاب معبرة عن الاحترام لشخصية المشيشي، لكن ذلك لم يحل دون بروز انقسام بشأن اختياره دوناً عن غيره من الأسماء التي طرحت.
وفي السياق، اعتبر الناشط السياسي والقيادي السابق في حركة "النهضة"، عبد الحميد الجلاصي، في منشور عبر حسابه بموقع "فيسبوك"، أنّ سعيّد لم يوفّق في اختياره للمشيشي ''بقطع النظر عن كفاءته من عدمها''. ورأى أنّ الرئيس لم يقم بدوره الاستشاري الرئيسي بـ''ترك ترشيحات الأحزاب لهذا المنصب جانباً''. وحذّر الجلاصي من الانحراف بالنظام السياسي الحالي إلى نظام سياسي موجّه، معتبراً أنّ ''إمكانية التدارك ما زالت ممكنة، إذا ما أثبت المشيشي بأنّه رئيس حكومة وليس وزيراً أوّل، ويتعامل بالأساس مع البرلمان ويحترم صلاحياته الدستورية حتى لا يتم الانحراف نحو نظام سياسي مشوّه''.
من جهته، قال النائب عن "حركة الشعب"، خالد الكريشي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ اختيار رئيس الجمهورية للمشيشي "صائب، ويستجيب للمعايير التي وضعتها حركة الشعب، ولمقاييس نظافة اليد، وهو بعيد عن تضارب المصالح والفساد، ويدافع عن السيادة الوطنية وعدم الولاء للأجنبي". وتابع الكريشي أنّ "اختيار سعيد قام على الشرعية الدستورية، وتحديداً الفصل 98 من الدستور"، مضيفاً أنّ "الاختيار شرعي ومشروع وجيد". وأشار إلى أنّ حركة الشعب "لم تفاجأ بهذا الاختيار من حيث المعايير الموضوعة"، مبيناً أنه "جرى نقاش حول هذه الشخصية داخل الحركة، وكانت من بين الأسماء المتداولة، ولكن تم الاكتفاء أخيراً ببعض الشخصيات".
وبموجب نصّ الفصل 98 من الدستور، فإنه في حال استقالة رئيس الحكومة أو عدم تجديد المجلس التشريعي الثقة في الحكومة، اعتبرت مستقيلة، وفي الحالتين يكلّف رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لتشكيل حكومة.
بدوره، أكد النائب عن حزب "تحيا تونس"، وليد جلاد، أنّ حزبه "سيتفاعل إيجابياً مع الشخصية التي نعتبرها مناسبة، والاختيار موفق لأنّ المشيشي شخصية مستقلة ووطنية وهو ابن الإدارة التونسية"، فيما اعتبر رئيس كتلة "ائتلاف الكرامة"، سيف الدين مخلوف، أنّ "رئيس الجمهورية تحوّل إلى عبء حقيقي على الانتقال الديمقراطي".
وتطرح المواقف من اختيار المشيشي أسئلة جوهرية، وهي ماذا يريد سعيّد من وراء هذا الاختيار؟ وما هي الحكومة التي يريدها؟ وعلى أي أساس وبمن ستتشكل؟ وما الذي يقصده من وراء تصريحه إبان تكليف المشيشي بأنه "يحترم الشرعية، ولكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيراً صادقاً وكاملاً عن إرادة الأغلبية".
المؤدب: اختيار المشيشي خيّب آمال عدد من الأحزاب البرلمانية في مقدمتها حركة النهضة
وفي هذا الإطار، اعتبر المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن اختيار سعيّد للمشيشي لقيادة الحكومة المقبلة "متوقع من حيث نوعية الاختيار من خارج إرادة الأحزاب، وهو يكشف نواياه وتوجّهاته مستقبلاً". وأوضح أنّ "اختيار شخصية مستقلة غير متحزبة ومن اختصاص قانوني ومن جهة الشمال الغربي (محافظة جندوبة)، تلتقي مع الرئيس المستقل عن الأحزاب ورجل القانون الذي يغازل باستمرار الجهات الأقل حظاً والمحافظات المسحوقة".
ورأى المؤدب أنّ اختيار المشيشي "خيّب آمال عدد من الأحزاب البرلمانية، في مقدمتها حركة النهضة التي حاولت مغازلة سعيّد ببياناتها الاستباقية وتصريحات قياداتها التي عبّرت عن ثقتها في اختيار الرئيس"، مضيفاً "حتى الأحزاب التي تواري حسرتها وتتظاهر بسعادتها، فهي تهلل بحثاً عن موطئ قدم في الحكومة الجديدة أو نكاية في حركة النهضة، متصدرة المشهد البرلماني، والتي يواصل الرئيس تجاهل موقعها وثقلها".
وقال المؤدب إنّ سعيّد "بصدد ترويض الأحزاب البرلمانية وإخضاعها لسياسته من خلال سياسة الأمر الواقع وخطاب الترذيل الممنهج للأحزاب". ولفت إلى أنّ سعيّد "نجح في تطويع منظومة الحكم من دون تعديل للدستور، من خلال اقترابه من وضع يده على كامل السلطة التنفيذية، في انتظار تحقيق مشروعه الكبير في تغيير النظام السياسي كله".
واعتبر أن سعيّد "يتجه لتكوين حكومة حرب على النظام البرلماني، بعد أن نجح في فرض إرادته"، مشيراً إلى أنّ "سيناريو إعادة الانتخابات ما زال قائماً، خصوصاً بعد أن وجدت الأحزاب الكبيرة نفسها خارج سياق المشهد".
بدوره، قال المحلل السياسي محمد الغواري في تصريح لـ"العربي الجديد" إنّ سعيّد "ذهب بعيداً في تطبيق معنى حكومة الرئيس التي لا توجد مبادئها سوى في دستوره الخاص، وقد اختار تكرار سيناريو اختيار إلياس الفخفاخ بشكل أفظع؛ فإن كان في الحكومة السابقة قد اختار مرشح الكتل الأقلّ دعماً وعدداً والأكثر اختلافاً مع النهضة، وشخصية حزبية من خارج البرلمان، فإنّه اختار هذه المرة شخصية مستقلة لم تقترحها أي من الأحزاب أو النواب، وولاؤها له دون سواه".
وضع سعيّد الأحزاب أمام أمر واقع لا خيارات كثيرة أمامها لرفضه
وأضاف الغواري أنّ سعيّد "يعلم أنه باختياره هذا قد خالف الشرعية، وشرع فعلاً في تغيير الشرعية التي ذكرها في كلمة التكليف، من خلال تغليب خياره على خيار مجلس الشعب الذي تنبثق منه الحكومات بحسب الدستور". ولفت إلى أنّ "الرئيس بتعيينه شخصية تدربت في قصر الرئاسة بقرطاج وتدرجت إلى وزارة الداخلية ومنها إلى قصر الحكومة بالقصبة، قد صنع لنفسه جنرالاً لقيادة حروب الشرعية التي سيخوضها".
وضع سعيّد الأحزاب أمام أمر واقع لا خيارات كثيرة أمامها لرفضه، فإمّا القبول بالحكومة التي سيشكلها، أو إسقاطها وحلّ البرلمان، على الرغم من أنّ بعض القراءات تؤكد أن حلّ البرلمان ليس أوتوماتيكياً إذا ما سقطت الحكومة. وبموجب الفصل 89 من الدستور، فإنه إذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه 45 يوماً وأقصاه 90 يوماً.