اللجوء الفلسطيني.. التُهْمَة وأثمانها

07 نوفمبر 2018
+ الخط -
منذ لجوئهم الأول في العام 1948، حَمَل الفلسطينيون وزرا مضاعفا؛ عبء قضيتهم، بالإضافة إلى إشكاليات ديموغرافيا الشتات، وظروفه الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية. وكان اللاجئون دوما الحلقة الأضعف في معادلةٍ تفتقر العدالة على نطاق واسع، لم يكونوا وحدهم ضحاياها. واقتضت معركتهم الوجودية، تحويل مجالهم السوسيولوجي الخاص، انطلاقاً من المخيمات، من مجرّد تجمع للاجئين إلى ديموغرافيا تحوز فعلاً سياسياً.
قبل أن تُحكِم العسكرتاريا العربية سيطرتها على السلطة، هنا وهناك، وتحت عناوين أيديولوجية مختلفة، انخرط جيل النكبة في الحراك السياسي للمجتمعات العربية، وأسهم فلسطينيون في تأسيس بعض الحركات السياسية العربية، قبل بلورة مشروعهم السياسي الجامع الذي عبّرت عنه منظمة التحرير الفلسطينية. وأملت السياسة الفلسطينية التي قادتها حركة فتح، من شعار "عدم التدخل في الشؤون العربية"، ضمان أن تكفّ الأنظمة العربية عن التدخل في شؤون الفلسطينيين.
من جهةٍ، استمرت محاولات الدول العربية في مصادرة القرار الفلسطيني، وتوظيفه بما يخدم توجهاتها السياسية في مراحل مختلفة. من جهة أخرى، استمرت قناعاتٌ سياسيةٌ في الساحة 
الفلسطينية ترى أن طريق تحرير فلسطين يمر عبر إسقاط تلك الأنظمة. على الأقل، كان الفلسطينيون في مستواهم الشعبي، غير العابئ بالمساومات وحسابات السياسة، أقرب إلى المعارضة، وحَمَّل وعيهم الجمعي أنظمة عربية مسؤولية عن نكباتهم المتلاحقة، فتشاركوا مع رفاقٍ، وإخوةٍ عرب، نشاطهم المعارض.
كان على التعدّدية السياسية الحزبية والفصائلية الفلسطينية (الفريدة عربيا على علّاتها) أن تظل حبيسة مخيمات اللاجئين وتجمعاتهم، خشية انتشار عدواها. وبتحريضٍ من المستوى الرسمي، في كل مرة يخوض فيها في ما لا ينبغي الخوض فيه، وجد اللاجئ الفلسطيني نفسه أمام حالةٍ عربية شعبية، توضحت أكثر فأكثر، ترى فيه قاعداً في حضن الآخرين، ويُمارس، في الوقت نفسه، نتْف ذقونهم. أما تشويه صورة اللاجئ الفلسطيني فكان يسير بالتوازي مع متطلبات "معارك السلام"، أو دهاليز التطبيع العربية. من ذلك، الرواية المروّجة أمنيا أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم للمستوطنين اليهود قبل خروجهم العام 1948.
عموما، لم تمنحهم مركزية قضيتهم أي حقوقٍ تتعدى كرم الضيافة، فاستمرت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين ملفاً تديره الأجهزة الأمنية. كان في الوسع تهميش أصحاب القضية، وعزلهم عن محيطهم العربي، مع الاستثمار الدائم لقضيتهم ووهم مركزيتها. وقد أحدثت سياسات الاستثمار وتشويه واقع اللاجئين وصورهم حالةً من انعدام الثقة بين اللاجئين والشعوب المضيفة، انعكست مع الربيع العربي، وتفكّك المجتمعات العربية في مواجهة العنف، نقصا في حجم ما كان متوقعا من تعاطفٍ متبادلٍ بين الثورات العربية والقضية الفلسطينية، ليبدو أن مَطالِبَ بالحرية والتحرر هنا وهناك في حال تعارض.
كان على حركة المتهم / اللاجئ الفلسطيني، المشاغب أمنيا وسياسيا، وتنقلاته، أن تكون مراقبة ومقيّدة. هناك دول عربية منحت اللاجئين الفلسطينيين وثائق سفر، لكنها منعتهم من دخول أراضيها. فرضت دول أخرى على الراغبين زيارتها منهم كفالات مالية، ارتفعت قيمتها وقصرت مددها، أو موافقات أمنية مسبقة للعبور (ترانزيت). وغالبا ما فُرض على المقيمين منهم، في أراضي هذه الدولة أو تلك، تأشيرات خروج وعودة، ومراجعة فروع أمنية للحصول على أذون للسفر.
يبقى الاستبداد عدو الإنسانية عدوا للاجئين أينما حلّوا، ففي تايلاند، حيث انتقد تقرير منظمة العفو الدولية (2017- 2018) ممارسات "المجلس العسكري الوطني للسلم والنظام" بحق التايلانديين، من تقييدٍ تعسّفي للأنشطة السياسية السلمية، وانتهاك لحقوق الإنسان، لم يُمنح هناك لاجئون فلسطينيون هربوا من جحيم الحرب السورية (معهم أشقاء سوريون) وضعًا قانونيًا رسميًا، ما جعلهم عرضةً للترحيل، والاعتقال، والاحتجاز، في ظل ظروفٍ لا تليق ببشر، سيما في سجن الهجرة "I.D.C" حيث احتجزت عائلات بأكملها، والتهمة أنهم لاجئون. لكن يبقى استبداد ذوي القربى أشد مضاضة.
استقال، في مطلع الثمانينات، والدي من وظيفته مدير إحدى مدارس وكالة الغوث (أونروا) في دمشق، مختارا أن يجرّب حظه مع سبعة أطفال وأمهم، مدرسا يكابد عناء الغربة في السعودية. في السنوات الأولى، كانت الطائرة وسيلتنا للسفر والعودة إلى سورية. لاحقا، بعد تزايد عددنا، أنا وإخوتي، إلى عشرة، كان على والدي توفير بدل تذاكر الطيران، واختيار وسيلة للسفر أقل كلفة، وهي السفر برّا بسيارته الخاصة، وكان عبور الأراضي الأردنية يتطلب موافقةً من الجهات الأمنية المختصة، عبر طلب يقدمه والدي قبل حوالي شهر من حصوله عليها.
في إحدى سفراتنا، أُخضع والدي للتحقيق من أمن الحدود الأردني، باستثناء أن والدي لاجئ فلسطيني يحمل وثيقة سفر سورية لم توجّه له تهمة أخرى. بعد انتظارنا ثماني ساعات متواصلة تم حجز وثائق السفر، وطلب من والدي مراجعة أحد الفروع الأمنية في عمّان. تكرّرت زياراته إلى الفرع، ما اضطره إلى الحصول على حجز فندقي. في كل زيارة كانوا يطلبون منه الانتظار جالسا في غرفة الاستقبال ساعات، ثم يطلبون منه المراجعة في اليوم التالي. بعد أسبوع، أُفرِجَ عن وثائق السفر، لتكمل الأسرة طريقها. أصبحت هذه المسرحية تتكرّر مع كل عبور، وكانت فرصتنا لسياحة إجبارية في العاصمة الأردنية عمّان، إنها نوع جديد من السياحة الأمنية القسرية.
شتتت الحرب السورية الأسرة في مناف بعيدة وقريبة، ظل والدي ووالدتي في سورية إلى 
جانبي أنا واثنتين من شقيقاتي. وبعد أكثر من خمس سنوات، رغب والداي زيارة شقيقاتٍ لي في الخارج، ورؤية حفيدتيهما للمرة الأولى، توجب عليهما السفر إلى بيروت لإجراء مقابلةٍ في سفارة البلد الذي تقيم فيه شقيقتاي والعودة في اليوم نفسه. في لبنان، حيث ظروف الفلسطينيين فيها تكاد تكون الأسوأ، لا تحكم القوانين الواضحة علاقة السلطات اللبنانية باللاجئين الفلسطينيين، بقدر ما تحكمها المزاجية الطائفية، والحسابات السياسية المتقلبة.
توقف والداي، في الشهر الماضي، على الحدود اللبنانية، بعد رفض أمن الحدود دخولهما بانتظار حضور الضابط المناوب الذي تغيب عن المناوبة، للبت في أمرهما. بعد انتظار دام ساعات خمساً، لم يسمح لهما الضابط بالعبور، وأخبرهما بعد قشعريرةٍ سرت في جسده دفعته إلى رمي وثائق السفر بعيدا: "الفلسطيني ممنوع". لكي أهدئ من روعهما، وأخفّف عنهما بعد عودتهما من دون إتمام المقابلة، رحت أحدثهما عن نجاتهما مُسنَين من عاصفةٍ ضربت لبنان بمجرد عودتهما إلينا سالمَين، لكن عاصفة المرارة والحسرة التي اجتاحت صدريهما ما زالت أقوى من كل العواصف.
أذكر أن صديقا عربيا جاملني، في إحدى مناسباتنا الفلسطينية، متمنيا أن يشهد جيلنا دولة فلسطينية مستقلة، يأتي لزيارتي فيها. قلت له ممازحا إنني أخشى حينها أن يتوجب عليه فور وصوله إلينا مراجعة فرع الأمن الفلسطيني الخاص ببلده. لم يفهم ما أعنيه، فطلب توضيحا. نبهته أن حكومات عربية أنشأت فروعا خاصة باللاجئين الفلسطينيين، مهمتها رعاية شؤونهم الأمنية، ولأنني لا أتوقع أن تكون تركيبة النظام السياسي الفلسطيني القادم مغايرةً لما هي عليه تركيبة معظم الأنظمة الأمنية العربية، فإننا سنشرع على الفور بردّ الجميل، وإنشاء فروع أمنية خاصة بالأشقاء؛ سوريين، وعراقيين، وأردنيين، ولبنانيين، وغيرهم. ضحك وقال: "إذاً، لا قدّر الله قيام دولتكم".