الكافر وصورة الرئيس

الكافر وصورة الرئيس

02 ابريل 2016
+ الخط -
حصل هبوط مفاجئ للضغط، في محطة ضخ المسطومة التي تؤمِّن المياه لمدينة أريحا، وذلك في أثناء التشغيل التجريبي الذي يقوم به الخبير الألماني، بمساعدة عشرة من الفنيين المنتدبين لهذه الغاية، كنتُ أحدهم، وأنا الذي اصطحبني الخبير معه، للبحث عن المشكلة التي لا بدّ أنّها حصلتْ نتيجة كسرٍ في خط الضخ.
حين أصبحنا على مقربةٍ من معسكر طلائع البعث، لاحت لنا المياه المندفعة نحو السماء من قلب المعسكر، فسألني الخبير بعدما تجاوزنا الباب الرئيسي: ما هذه المؤسسة (يقصد معسكر طلائع البعث)؟
لضعفي الواضح في اللغة الإنكليزية، طال تفكيري بلملمة الجواب، وحينها كانت عين الخبير قد وقعت على تمثال الإله الجاثم في وسط المعسكر، فأجاب نفسه، وعلّمني بعدما ردّد: آي نو.. آي نو.. مركز أطفال هتلر.
في أثناء المغادرة، لوّح الخبير بيده مودّعاً حراس المدخل، ثم أشار لهم بإبهامه نحو الخلف، أي نحو التمثال، وهو يضحك، ويصيح: هتلر..هتلر..، بذلت ما لديّ من عياقة في التشويش عليه، وعدنا إلى المحطة، وقلبي تخترقه هواجس الخوف، فيما لو فهم الحرّاسُ مقصدَ الخبير، واعتبروني أنا الذي علّمته الكفر!
كانت الشاي جاهزة في أثناء عودتنا إلى المحطة، تحلّقنا حول مائدتها، وانشغل الخبير يسأل المهندس عما أنجزته ورشة تركيب أكبال التحكّم، وبينما أنا أهمس لصديقي الذي أثق به، عمّا فعله الخبير على باب المعسكر، وإذ برئيس الورشة يدخل طالباً من المهندس حلّاً لمشكلةٍ لم تخطر على بال، هي أنّ مسار الأكبال الثلاثة، سيمرُّ إجباريّاً فوق صورة سيادة الرئيس، وليس للصورة إطار، كان ثبّتها المخبر الشعبي، رئيس اللجنة النقابية، بمادةٍ لاصقة فوق الجدار.
تجمهرنا جميعنا أمام جلالة الصورة، وكأنّنا أمام لوحةٍ لبيكاسو، نفكّر بحلٍّ مناسبٍ لهذه المعضلة الخطيرة. اقترح أحدهم، وهو أفقهنا أمنيّاً، الاتصال بالفروع الأمنية لتوضيح الموقف، والاستئذان بإزالتها لضرورات المصلحة العامة، على أن نعلّق صورة مؤطّرة، بدلاً عنها في غير هذا المكان، ثم اقترح الأفقه إداريّاً، توجيه كتاب رسمي للمدير العام، نضعه فيه أمام مسؤولياته (ويا دار ما دخلك شر)، ثم اقترح الأكثر تعسيراً، استئجار ورشة حفر، تقوم بواسطة الكمبريسة بإحداث فتحتين في الجدار المسلّح، واحدة قبل الصورة وأخرى بعدها، ليتمّ تمرير الأكبال من الفتحة الأولى إلى خارج الصالة، ثم إعادتها إلى الداخل من الفتحة الثانية، واقترح الأمهر فنيّاً، تمرير الأكبال بمحاذاة الصورة ومن الجهات الثلاث، فتصير بمثابة إطارٍ لها، إذا كان لا يمنع هذا الهدر من وصول الأكبال إلى المكان المراد، علما أن الأكبال أرسلتها الشركة الألمانية خصيصاً لهذا الغرض، ولم يكن لها آنذاك نظير في السوق المحلي.
حظيتْ الفكرة هذه بموافقة الأغلبية، وقبل الشروع بقياس المسافة المتبقية، للتأكد فيما إذا كان طول الأكبال يكفي لذلك، داهمَنَا حضورُ الخبير الذي كان مشغولاً في عملٍ آخر، وطلب من المهندس تفسيراً لهذه الجمهرة التي طالت كثيرا، وما إن ترجم المهندس، موضّحاً للخبير فداحة الموقف وخطورته، حتى أطلقَ الخبير صوتين متساويين في القوة ومتعاكسين في الاتجاه، ومتّفقين في المقام، ومختلفين في الرائحة، وانقضّ على الصورة بقهقهةٍ عالية، وبالمفك الذي كان في يده، لينال من قداستها، غير أنّ حرّاس جلالتها انقضوا عليه، وأبطلوا هجومه الإرهابي، ولمّا بهت الذي كفر (أي الخبير) فاضت لديه مشاعر السخرية، وبدأ يلعب بأعصابنا، فكلما رآنا التهينا مثّلَ الهجومَ عليها، ليهرع إليه أكثرنا خوفاً، فتزداد متعة الخبير، فيضحك ويضحك، وظلّ يضحك، حتى سافر إلى بلاده، وفي يوم وداعه، بعد مرور عام كامل على قضيّة الصورة، لمح في عينيّ دمعتين، وهو يهمّ بمعانقتي، فقال لي مازحاً: أنت تبكي خوفاً على الصورة، أعِدُكَ يا صديقي لن أمسّها بعد هذا اليوم.
avata
avata
عبد الرحمن الإبراهيم (سورية)
عبد الرحمن الإبراهيم (سورية)