القرم خاصرة أوروبا الضعيفة

القرم خاصرة أوروبا الضعيفة

30 اغسطس 2016

بوتين في مياه البحر الأسود في القرم (أغسطس/ 2015/الأناضول)

+ الخط -
زار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شبه جزيرة القرم، قبل أيام، للمشاركة في اجتماع مجلس الأمن الفيدرالي، في ظلّ اتهامات وتخوّفات أوكرانية بشأن احتمال اجتياح القوات العسكرية الروسية الأراضي الأوكرانية، ما يطرح مزيداً من التساؤلات، بشأن رفع مستوى التوتّر مجددًا في الإقليم، صاحبت ذلك اتهامات روسية لمحاولة متمرّدين أوكرانيين القيام بأعمال إرهابية في القرم، بالتنسيق مع الاستخبارات العسكرية في كييف.
يؤكّد مراقبون أنّ شرق أوكرانيا يشهد توتّرًا وقلقًا واختراقًا لمعاهدة حفظ الأمن والسلام في إقليمي دونباس ولوغانسك، وتمّ رصد ما يزيد على 1800 تفجير خلال أسبوع في إقليم دونباس وحده. وفي الوقت الذي تشهد فيه طول حدود القرم المشتركة هدوءًا نسبيًا، يمكن استشعار ضجيج السلاح وقرعه في الأجواء. المناورات العسكرية مستمرّة خلال شهر أغسطس/ آب الجاري، وتشمل نقل الأسلحة والمعدّات من ميناء القفقاس إلى القرم. ومن المقرّر كذلك نشر قواعد صواريخ سي 400 ورادار حديث روسي في شبه الجزيرة. وتتهم أوكرانيا روسيا بالتجهيز لاقتحام شرق البلاد. شبه جزيرة القرم هي خاصرة أوروبا الضعيفة، الأمر الذي أدركه الزعيم الروسي بوتين مقتنعًا بالقصور الأوروبي، وعبثية مطالب حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي بكبح العمليات العسكرية والالتزام بمعاهدات السلام، ومقدّمة لرفع الحضور العسكري الضارب في سورية.

اتهامات روسية أوكرانية متبادلة
توقع الرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو رفع معدّلات التوتّر والخلاف مع روسيا، وإمكانية اجتياح القوات الروسية أراضي بلاده. بدورها، اتّهمت موسكو أوكرانيا برفضها الالتزام بما ورد في اتفاقية مينسك للسلام، وطلب الزعيم الروسي، بوتين، عقد اجتماع لمجلس الأمن الفيدرالي الروسي لمواجهة التصعيد الأوكراني، المتعمّد حسب تصريحاته. وأضاف بوتين إنّ شركاءه في كييف قرّروا تصعيد الأزمة، لأسبابٍ لا تخفى على أحد، أهمّها انعدام وجود الرغبة لدى أوكرانيا، للالتزام بتنفيذ بنود اتفاقية مينسك. ويرى مراقبون أنّ الطرفين يتعمّدان تصعيد الأوضاع على الحدود المشتركة، للحصول على مزيد من التنازلات الأوروبية. وتسعى روسيا جاهدة إلى إلغاء الحصار الاقتصادي المفروض عليها من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً وأنّها تمرّ بأزمة اقتصادية، أدّت إلى تسريع طيّ ملف الخلاف مع تركيا، لرفع مستوى التبادل التجاري بين البلدين، وإنجاز بناء مشاريع المفاعلات النووية، وخط نقل الغاز الدولي عبر تركيا. وتسعى أوكرانيا إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي، للحصول على مساعدات مالية، وعلى مزيد من الأولويات على الصعيد الاقتصادي والتجاري والسياسي.

وقد ذهب بوروشنكو إلى أبعد من ذلك، وقال لقناة "سي إن إن" إن روسيا تسعى إلى تحويل أوكرانيا لكي تصبح جزءًا من إمبراطوريتها. وإن بوتين يهدف إلى زعزعة الاستقرار في كامل الأراضي الأوكرانية، ولا تحتاج روسيا لمقاطعتي دونباس ولوغانسك فقط، بل لكلّ أوكرانيا، وترغب كذلك بالعبث بالاستقرار في كل أنحاء العالم. وتشبه هذه الوضعية، إلى حدّ بعيد، ما تعانيه مدينة حلب في الوقت الراهن. ولدى روسيا هدف واحد، هو التلاعب بالاستقرار العالمي". وأضاف بورشنكو إنّ القصف الروسي أدّى إلى مقتل 13 مقاتلاً أوكرانياً وجرح 91 آخرين في مقاطعة دونباس في الأسبوعين الماضيين. هذه التصريحات مفرطة وتحتمل الكثير من المبالغة، فروسيا، على أيّة حال، قوّة دولية قادرة على إثبات حضورها في الساحات الدولية التي تشهد فراغًا سياسيًا، إضافة إلى انعدام الرغبة لدى أطراف عديدة، للتوصّل إلى تسوية للأوضاع المتفجّرة بصورة نهائية ومرضية، كما الحال في سورية.
زار بوتين شبه الجزيرة في شهر مارس/ آذار الماضي، والتقى مع القادة العسكريين والسياسيين والإداريين في القرم التابعة للإقليم الفيدرالي الجنوبي، بعد أن فقدت استقلالها الإداري، إثر ضمّها للفيدرالية الروسية. وحضر الزعيم الروسي للإشراف على عملية بناء جسر فوق مجرى نهر كيرتشينسكي، وهو عادة ما يفضّل زيارة القرم خلال شهر أغسطس كما فعل خلال العام الماضي، حيث هبط على متن غواصة الأعماق إلى قاع البحر الأسود. آخر الشخصيات القيادية التي زارت المنطقة هو رئيس الوزراء دميتري مدفيديف، وأحدثت الزيارة ضجيجًا إعلاميًا، حيث رفض مدفيديف رفع موازنة الإقليم، وتحسين الرواتب بسبب العجز المالي، طالبًا من القادة في القرم الصمود.

روسيا والتهديدات الخارجية
من يهدّد روسيا، وهل أقدمت مجموعة من المنشقين الأوكرانيين في القرم على تهديد أمن الإقليم، كما يدّعي الكرملين؟ حسب مراقبين دوليين عديدين، لا توجد أدلّة روسية دامغة لإثبات صحّة هذه الاتّهامات. الأسباب تعود لمصادفاتٍ كثيرة، ما يشير إلى محاولة الكرملين استثمار هذه الحادثة لتعطيل العمل باتفاقية مينسك. الأمر المؤكّد أنّ روسيا أعلنت عن حملةٍ عسكريةٍ مهيبة، ردًا على الحادث المذكور، بغضّ النظر عن مدى صحّته، حسب ما كتب إيغور إيدمان في موقع "دوتشي فيليه". وقبل هذه الأحداث، نشر موقع استطلاع الآراء "ليفادا" بياناتٍ تشير إلى انخفاض اهتمام فئات الشعب الروسي بالقضية الأوكرانية، وتراجع عدد المواطنين الذين يتوقعون حربًا مع أوكرانيا إلى 20% مقارنة مع بيانات العام 2014. ما يعني أيضاً أنّ الشعب الروسي بات أكثر ميلاً لقبول حالة السلام، ووقف قرع طبول الحرب باستمرار.
استخدم الكرملين بعبع الحرب سنوات طويلة أداة ناجحة لتعبئة الرأي العام، والحصول على الدعم الاجتماعي لتوجهات الكرملين ومشاريعه، وإبعاد الأنظار عن المشكلات الداخلية، خصوصاً وأنّ الشعب الروسي معروف بولائه ووطنيته، وقدّم ملايين الضحايا، من أجل حرية بلاده واستقلالها. واستخدمت هذه السياسة منذ العام 2008 في أثناء النزاع الذي اندلع مع جورجيا، ويتمكن بوتين من رفع مستوى شعبيته، كلّما أجّج أتون الحرب، وإحباط نشاط المعارضة السياسة الداخلية الناقدة لتراجع مستوى الحياة، وغيرها من المعايير ذات الطابع المحلي.
نشرت وكالة "دنيفنيك" الإعلامية معلومات تفيد بأنّ بوتين أوعز بمعاينة جاهزية القوات العسكرية الموجودة في الشمال، وحتى البحر الأسود، قبل نهاية شهر أغسطس/ آب بأيام. والقوات المعنية متأهبة على مدار الساعة. تأتي هذه الأوامر بمناسبة القيام بمناوراتٍ عسكرية شاملة "قفقاس 2016"، تشمل القوات في القطاعات العسكرية الجنوبية والغربية والوسطى، وكذلك الأسطول البحري الشمالي والأسطول الجوي والقوات الجوية الفضائية، حسب ما صرّح وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، وستستمر معاينة هذه القوات حتى نهاية شهر أغسطس، وهناك إمكانية لرفع القدرات العسكرية الإستراتيجية في الجناح الجنوبي الغربي.
تمنع المناورات وسياسة التجييش المستمرة المواطنين من التفكير بقضايا مدنية بديلة، لأنّ همَّ الدفاع عن الوطن من المخاطر الخارجية يطغى على كل التوجّهات الأخرى، وتكبح رغبة المعارضين بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم، وقد يُتّهمون، عند الضرورة، بالخيانة تحت طائلة القانون.

أوكرانيا ترغب باسترداد القرم
لا تخفي أوكرانيا رغبتها باسترداد شبه جزيرة القرم لسلطتها الإدارية الحاكمة في كييف، لكنّها لا تعرف كيف تقوم بذلك، خصوصاً وأنّ العقوبات الأوروبية لم تثمر سوى عن إعلان عقوبات روسية مماثلة لدول المنظومة الأوروبية، وقد تمكّن بوتين من كسب شعبيةٍ واسعةٍ من خلال تصدير الأزمات الداخلية، والظهور بصورة الزعيم المخلّص والأوحد في تاريخ روسيا الحديثة. وفضلت أوكرانيا التوجّه نحو المنظومة الأوروبية، وأدارت ظهرها للجار القوي، وكان عليها أن تدفع ثمن ذلك باهظًا، بفقد شبه جزيرة القرم، بعد إقدام القوات الروسية على احتلالها، حسب تصريحات السفير الأوكراني في صوفيا، ميكولا بلطاجي.
واشتكى السفير الأوكراني من استمرار خرق حقوق المواطنين الأوكرانيين، واستمرار التدخّل الروسي في بلاده، وتسليح القوات الداعمة لتقسيم أوكرانيا واستقلال أقاليمها المختلفة. وقال إنّ أوروبا لم تشهد عملية احتلال عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، باستثناء شبه جزيرة القرم. ولن تعترف أوكرانيا أبدًا باحتلال القرم، وستعمل الحكومة الأوكرانية على الحيلولة دون اعتراف المجتمع الدولي باحتلال القرم، باعتباره أمرًا واقعًا، وتكثيف الجهود لاستعادة القرم بطرق سلمية. ولكن، ضمن الظروف الراهنة تبقى الرغبة الأوكرانية مجرّد تمنياتٍ طوباوية، ولا توجد آليات ضغط قوية قادرة على إقناع الكرملين لإعادة القرم إلى وضعيتها السابقة. وأنكر السفير كذلك تورّط الاستخبارات العسكرية الأوكرانية بالتحضير، أو بدعم أعمال إرهابية في القرم، والهدف من الادّعاءات الروسية استثمارها للقيام بأعمال عدوانية ضدّ أوكرانيا.


أنقرة تعد بعدم الاعتراف باحتلال القرم
وعد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعدم اعتراف بلاده باحتلال شبه جزيرة القرم، وذلك في مكالمة هاتفية أجراها مع الرئيس الأوكراني، بترو بوروشنكو، وكان قد أكّد على موقف تركيا الداعم لاستقلال أوكرانيا، وسيادتها على كامل أراضيها، ولا يوجد تغير في الموقف الرسمي التركي بهذا الشأن. وقال المكتب الإعلامي للرئيس الأوكراني إنّ الطرفين تناولا في المكالمة بذل كل الجهود الممكنة لتمتين أواصر الشراكة الإستراتيجية بين تركيا وأوكرانيا.
ويشار إلى أنّ قرابة 250 ألف مواطن تتري من أصول تركية يعيشون في شبه جزيرة القرم البالغ عدد سكانها قرابة خمسة ملايين من أقليات مختلفة. من أهم الشخصيات المعنية أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق الذي ينحدر من تتر القرم، لذا فإنّ للقرم أهمية كبيرة لأنقرة أيضًا.
من المتوقع أن تواصل الدبلوماسية الأوكرانية الضغط على المجتمعات الدولية والديمقراطية لمناصرتها بشأن الصراع المستمرّ مع روسيا في مساقاتٍ كثيرة. وأنكر السفير بلطاجي وجود محاولات أوكرانية للقيام بعمليات إرهابية، والعبث بأمن القرم كما تدّعي روسيا. كما تبذل أوكرانيا جهودًا دبلوماسية كبيرة للإبقاء على العقوبات الاقتصادية المفروضة من الاتحاد الأوروبي ضدّ روسيا. وتحدثت وكالة رويترز عن نياتٍ لدى الرئيس بوتين، للضغط على دول أوروبية شرقية ووسطى (إيطاليا، اليونان، هنغاريا، سلوفاكيا، سلوفينيا، قبرص وبلغاريا) لإقناع الاتحاد الأوروبي بإلغاء العقوبات المفروضة ضدّ بلاده.

خلافات بشأن الإرث الحضاري
نظّمت وزارة الثقافة الروسية، أخيراً، في موسكو معرضًا فنيًا للتشكيلي إيفان آيفازوفسكي بمناسبة مرور 200 عام على ولادته، وهو من أصول أرمنية ولد وتوفي في القرم. وضم المعرض جزءًا من لوحاته الموجودة في مسقط رأسه في القرم، ما اعتبرته أوكرانيا سطوًا على إرث آيفازوفسكي، لكنّه بالنسبة لموسكو بات جزءًا من الفيدرالية الروسية الأصولية باعتبار القرم أراضي روسية تاريخية.
الإرث التاريخي الحضاري في القرم سيؤدّي إلى مزيد من المشكلات على الصعيد الدولي أيضًا. ويذكر أنّ متحف أمستردام قد استعار من القرم مجموعةً من لوحات الفنان آيفازوفسكي قبل ضمّ القرم لروسيا. وعليه، فإنّ اللوحات، حسب أوكرانيا، ملكٌ لها من دون روسيا، لكن محكمة أمستردام وحدها القادرة على حسم هذا الخلاف خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.


دلالات

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح