الفساد والاستبداد أنتجا التطرف

الفساد والاستبداد أنتجا التطرف

29 أكتوبر 2014
+ الخط -
نفتش في الخضم العربي العسير والملتبس، عن الرزايا التي أنتجت التطرف. يأخذنا التقصي، سريعاً، إلى النُخب الحاكمة التي أوصلتها دروب السلطة إلى الارتهان لأطراف دولية جامحة، أنشأت نمطها الإمبريالي الجديد، وما زالت "تلعب" في ساحات أوطاننا، وتجرح كرامات الشعوب. فعندما لا تتجدد النُخب الحاكمة، وأحزابها، ويتواصل تحقير الشعب بذريعة تمجيد الأمة؛ يتوهم الحاكمون أن الحال استتبت لهم، وباتوا ينعمون بأبدية الوصاية على الناس. وليس أعمق إيذاءً لمصائر الأوطان، من النخب الحاكمة سنوات مديدة، ومن انتقال العسكر ورجال المخابرات من مواقع حماية البلاد ومراقبة العباد إلى مواقع الحكم والسياسة وإدارة حياة المجتمع وحسم خياراته. وبعد التمكين، يؤخذ مجرد النقد الموضوعي الصائب، لأدائهم، باعتباره هجوماً على الوطن نفسه، لا سيما عندما يصبح اسم الوطن مقروناً بأسمائهم، على نحو ما جرت على الألسن تسمية "سورية الأسد"، حتى بات رفض استبداد الحكم والثورة عليه "تآمراً" على سورية هذه، أرضاً ووحدة تمامية ووئاماً إجتماعياً ووظيفة نضالية أو ممانعة ووفاقاً طائفياً. فمن أقرن اسمه باسم الوطن، هو، وليس الشعب والتاريخ والعقائد ومصالح الناس وأواصرها، ضمانة وحدة البلاد ووئام المجتمع وبرهان التمسك بالقضايا الوطنية. فإن سقط الصنم، يسقط كل شيء، وتصبح الأوطان والشعوب كالعهن المنفوش!
قبل أن يصل واحدهم إلى منصة السلطة، يقطع مسافة شاسعة من عمره، في غرف الاتصالات الإقليمية والدولية ذات الطابع الاستخباري، فاللاعبون "الدوليون" القائمون على النمط الاستعماري الجديد ينشطون من تحت قشرة الحكم الظاهرة في أوطاننا، أو من ورائها، فيصنعون "الأصدقاء" والموالين. وهؤلاء يدمنون على المنشّطات الخارجية، بحكم لزوم الشغل ودواعي الطموح. بقدر ما ينصرفون عن الشعب ويجافونه؛ ينقطعون إلى الآخرين الذين أوهموهم بأنهم الذين يحسمون المصائر، ويحددون الخيارات لخلق الله. تصيبهم سياقاتهم بالحَوَل، فيرون السياسة والحكم والمجتمع والدنيا في أوطانهم، بمنظور الآخرين!
للأسف، كانت نُخب المتنفذين في الأوطان تتوهم أن شطب السياسة في بلدانها، وتصحير المجتمع سياسياً، وإغلاق هوامش النقد والنصيحة، وسد منافذ تأثير المجتمع الأهلي في النظام السياسي توخياً لسياق رشيد؛ من شأنه أن يضمن لها حكماً سلساً عابراً لعقود. ربما زادها يقيناً بهذه الفرضية العجيبة أنها تعمدت الإغداق على أجهزة الأمن، وعلى كبار ضباط الجيش، ضماناً للولاء. بل تُتاح لضباط الجيش، رفيعي الرُتب، في بعض الأقطار، ممارسة الاتجار لا التجارة. فقد نشأت في سورية، مثلاً، ظاهرة عسكرة التجارة أو تجرنة العسكر، فضلاً عن التربح بالوجود عند تقاطعات حركة الموارد من أصولها إلى وعاء المجتمع، أو التموضع في مفترقات شبكات الاستيراد لكل شيء، كما في الجزائر التي استوردت، أخيراً، خبزاً لتغطية العجز. ففي هذا البلد الجميل ذي التاريخ البديع، سجل الحكم فشلاً صادماً ومعيباً على صعيد تنمية المهارات وحث الإنتاج، وتخليق شرائح قادرة على النهوض بمهام الاستغناء عن الخارج ما أمكن، ولو على مستوى السلع واسعة التداول.    
قلنا إن الأوساط الحاكمة في أقطارنا العربية المكلومة ظنت، عندما تعمدت تجريف السياسة من المجتمع، أنها ضمنت مستقبلها ومستقل الوارثين. لم تطرأ على أذهانها، فكرة الانفجار الاجتماعي، وأن الأوطان عندما تنفجر شعوبها لن تجد شرائح سياسية، تأخذها إلى بر الأمان، وتحافظ على أيقونات وجودها (وحدة الأرض والشعب والمصير)، فتعم الفوضى التي تأكل الأخضر واليابس. البريطانيون الاستعماريون أنفسهم كانوا في مستعمراتهم، يتيحون للمجتمع المُستَعمر، فرز شرائح سياسية من صلبه.
كذلك، لم تطرأ في أذهان المتنفذين فكرة أن ينقلب الجيش باعتباره وعاء كبيراً للشباب، ولا أن تتمرد الشرطة، مثلما في هذه اللحظة في الجزائر. من هنا، انبثق التطرف وجمَحَ وتغوّل. لذا، مردودة على أصحابها فكرة أن الأميركيين هم حصراً الذين أنتجوا المتطرفين!