الفرار من العيد

الفرار من العيد

24 مايو 2020
+ الخط -
في السنوات الأخيرة التي سبقت فرض قيود على التنقل والتجمع، نتيجة انتشار فيروس كورونا، كانت بعض المقاهي في عمّان تُعلن عزمها فتح أبوابها في ساعات صباح أول أيام العيد وظهيرته، وهي الفترة التي جرت العادة أنها مخصصة لتبادل التهاني بين أفراد العائلة الواحدة، وتناول طعام الفطور معاً بعد انقضاء شهر الصيام، وليس مُعتاداً خلالها ترك البيت أو الانسحاب من جولات التهاني بالعيد على بيوت الأقارب والقريبات من الأصول والفروع. راحت تلك المقاهي تعلن أنها توفر لروادها أجواء يومية عادية، متجاوزة بذلك ما جرى التعارف عليه من إغلاق أبوابها في ساعات العيد الأولى، حتى يحين المساء، فتستقبل روّادها بشكل طبيعي.
ومؤكّد أن تلك المقاهي لم تكن لتغامر بفتح أبوابها، ما لم تكن تعلم أن ثمة روّاداً كثيرين، من المتبرّمين من تقاليد العيد وطقوسه، وهم في معظمهم من الشباب والشابات، سوف يأتون إليها. أي بتعبير أدقّ: سوف يفرّون من العيد، ويبحثون عن مكانٍ يقضون فيه تلك الساعات ثقيلة الوطأة على نفوسهم. وهكذا، بينما يكون ممكناً لتلك المقاهي استقبال زبائن مبتهجين بالعيد في ساعات المساء، فإنها تخصّص عملها في ساعات الصباح للمتضايقين من العيد، غير الراغبين في مروره!
المعنى البسيط لهذا السلوك أن "العيد" الذي كان في أزمنة سابقة أياماً للبهجة ينتظرها الكبار والصغار أصبح هذه الأيام واجباً ثقيل الظل، لا مسرّة فيه، لقطاعاتٍ ارتأت أن متعتها تكمن في الفرار من هذه المناسبة بتفاصيلها الاستثنائية إلى أجواء عادية، تشبه اليوميات التي لا عيد فيها، لأنها توفر برأيهم بهجة تفوق ما يعد به العيد.
هذه الأحوال المستجدّة في مجتمع عمّان المعاصر يمكن مقارنتها بقصةٍ حصلت في المدينة نفسها قبل نحو سبعين سنة، نشرها المدوّن الأردني، طارق هادي، على "فيسبوك"، نقلاً عن والدته، 
وتعكس كم كان العيد بهجةً للكبار كما للصغار، ينتظرونه بفرح غامر. قالت السيدة: لمّا كان عمري اثنتي عشرة سنة، فَصّل لي أبي بمناسبة عيد الفطر حذاءً أبيض عند صانع الأحذية، وسعدت به كثيراً، وانتظرت العيد بفارغ الصبر لألبسه. حدث أن عمي جاء لزيارتنا، ولمّا كنت أحبه كثيراً، فقد أخرجتُ الحذاء لأُريه إياه، فأخذه ووضع إحدى فردتيه في جيب ثوبه اليمنى والأخرى في اليسرى، وخرج، بينما انخرطت في البكاء. بعدها بيومين، سمعتُ طَرْقاً على باب البيت الخشبي، وإذا صديق لعمّي يقف خلف الباب ويسأل عني قائلاً: عمّك أرسل لكِ فردة الحذاء هذه، ويقول إنه أضاع الفردة الثانية. أخذتها وأنا حزينة، ثم فوجئت لما نظرتُ فيها فوجدت أن عمي ملأها بالحلوى. مضت ثلاثة أيام أخرى، ثم لمّا كانت ليلة العيد، وكنت قد عزمتُ أن ألبس حذاءً قديماً عندي، إذ لم يكن لأحدٍ في ذلك الزمان أن يُفَصِّل زوجين من حذاءين في سنة واحدة، وإذا عمي يطرق بابنا. دخل وجلس، ثم ناداني قائلاً: هذه فردة حذائك الثانية قد وجدتها. أخذتُها بفرح شديد، فوجدت فيها عيديّتي؛ وضعها عمي ليفرحني بها.
اليوم، ما الذي غيّر قيمة العيد على هذا النحو الكبير، ودفع نفراً من الناس للتذمّر منه بدلاً من الفرح بقدومه؟ سيكون من السطحي الاعتقاد أن مردّ الأمر ما يعرفه الإنسان العربي هذه الأيام من ضغوط حياتية ومعيشية متزايدة، فالصحيح أن تلك الضغوط يُفترض أن تكون دافعاً أكبر لانتظار فرح العيد محطة استراحة من دوامتها. كذلك الحال لو قيل إن السبب يكمن في الظروف السياسية والأمنية الصعبة التي تعرفها بلدان عربية كثيرة، فظروفٌ كهذه لم تغب منذ منتصف القرن العشرين، لكن المجتمعات العربية التي عايشت نكبة عام 1948 وهزيمة عام 1967 هي ذاتها التي نقول اليوم إنها كانت تبتهج بالعيد. والأمر نفسه يقال عن طغيان الحياة المادية على معيشتنا هذه الأيام، خلافاً لما كان في حياة الأجيال السابقة، فليست هي السبب الحقيقي، لأن العيد لم يكن منذ عقود طويلة مناسبةً روحية خالصة، ولم يحتفل به جيل الآباء والأجداد مناسبة دينية مجرّدة، بل اندرجت معظم تقاليده في إطار مادي.
أحسبُ أن الإجابة الأكثر دقةً تتصل بالوفرة والنُدرة، فقد كان العيد في أيام النُدرة السالفة يوفر 
للصغار والشباب والعائلات ما لا يتوفرون عليه في أيامهم العادية، من: ملابس جديدة، ومال إضافي، وطعام ولائم، وحلويات، وفرص للعب والمرح، بينما أن أكثر الناس، في أيام الوفرة الحالية، لا يجدون استثنائيةً في شراء ملابس جديدة، والالتحاق بمرافق اللعب والتسلية، وتناول طعام ممتاز، وحلويات متنوّعة، فهي كلها متوفرة ومتاحة في كل أيام السنة. ليس ثمّة حالة استثنائية يحققها لهم العيد، كي ينتظروه بفارغ الصبر، بل بالعكس، فإنه يضيف إلى كل ذلك العادي مما يتوفر لهم كل يوم واجباتٍ لم تعد تناسب إيقاع الحياة السريع، من مجاملاتٍ عائلية، ولقاءاتٍ مع أقارب لم يعد جيل الشباب يحسّ بالانتماء إليهم، مع انتفاء الحاجة للأسر الممتدة، خصوصاً في المدن.
هكذا يكون مفهوماً أن يحسّ نفرٌ من الشباب برغبة في الفرار من العيد، والتخفّف من أثقاله وواجباته التي تنتمي إلى زمان آخر. وهذا يعني أن استمرار المناسبات على نمطيتها، وعدم تساوقها مع مستجدّات الزمان، سيدفع فئات متزايدة إلى الفرار من العيد مع توالي السنين، إلى أن يقرّر المجتمع نمطاً مغايراً يناسب الناس، لكنه سيكون بالتأكيد مختلفاً عن كل ما عرفته مجتمعاتنا، وتمسّكت به عقوداً طويلة.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.