العصافير والقبور

العصافير والقبور

25 ابريل 2018

قبر لعصفور في حديقة منزلية

+ الخط -
في حديقة المنزل الذي أقطنه، مع أسرتي، وسط مدينة الدوحة، ثمة الآن قبرٌ لعصفور، بالمعنى الحرفي للعبارة، وليس المجازي. مساحته الصغيرة جداً، بتربته المُبللة حديثاً، والمحاطة بحجارة، تحاكي في تشكيلها قبور البشر، لم تلفت انتباهي حين دلفت البوابة الخارجية، عائداً من العمل، غير أن الحزن على وجه طفلتي الصغرى، ذات الأحد عشر ربيعاً، قادني إلى أن أتعرف، بعد لحظات، على حكايةٍ ذات شجون؛ مات الطائر الملون الصغير الذي تقتنيه صديقتها، ابنة الجيران، فتعاونتا على إخراجه من القفص، وحفرتا حفرةً لدفنه فيها، بمراسم طفولية، غلبت عليها دموع الحزن؛ وغاب عنها جواب تساؤلهما البريء؛ لماذا تموت العصافير؟
سأقع، هنا، في حيرة البحث عن جواب بسيط، للتساؤل الصعب، من دون أن أغفل عن تزامن طرحه مع أحداثٍ مثيرةٍ للأسى فعلاً، وكان من شأنها، على الأرجح، أن دفعت أطفالاً آخرين، مثل أبناء الشهيد الفلسطيني فادي البطش الذي اغتيل في العاصمة الماليزية، كوالالمبور، يوم السبت الماضي، ليطرحوا تساؤلاً أصعب، وأشد قسوة بما لا يقاس؛ لماذا يموت الآباء، بل لماذا يُقتلون؟
ستستدعي المقاربة، كذلك، فيضاً إضافياً من الإحساس بالقهر، حين نرى إسرائيل، دولة الاحتلال العنصرية، ترفض إعادة جثمان الشهيد الفلسطيني المتهمة بالتورّط في قتله، إلى قطاع غزة، وتطلب من الشقيقة العربية الكبرى، مصر، منع مروره عبر أراضيها، حتى تحرمه من أن يُوارى ثرى وطنه، بين أهله، ومحبيه.
لكن قصة البطش هذه، على ما حملته من دلالات، تظل مجرد مثالٍ جديد، في سياق عربي، اتصف في السنوات القليلة الماضية، أكثر ما اتصف، بارتكاب مذابح وجرائم جماعية، يصعب حصرها، لا سيما في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر فضلاً عن فلسطين، ولفظ الألوف من ضحاياها أنفاسهم الأخيرة، وبينهم أطفال كثر، تحت أنقاض بيوتهم المدمرة، أو تمزّقوا إرباً نتيجة القصف، من دون أن يحصلوا في موتهم المفجع، حتى على حق الدفن، وفق ما دعت إليه الشرائع السماوية، منذ بعث الله غراباً كي يُري الإنسان كيف يواري سوأة أخيه.
وبالمناسبة، يمكن لمن يشاء، أن يجد على مواقع وسائل الإعلام الجديد، في وقتنا الراهن، لا في زمن قابيل وهابيل، تسجيلاتٍ مصورة لكلابٍ تدفن قططاً ميتة، كما يمكنه أن يجد، في المقابل، فيديوهات تعرض بشراً، من أتباع الجنرال خليفة حفتر، لا يتورّعون، عن نبش قبور خصومهم، لإخراج جثثهم منها، ثم سحلها في الشوارع، ومثلها لآخرين من مقاتلي "داعش" يحرثون مقبرة الشهداء الفلسطينيين في مخيم اليرموك بالجرافات، وصولا إلى إزالتها تماماً، فضلاً عن الصور الشهيرة التي وثقت موت ألوف المعتقلين تحت التعذيب بأيدي جلادي نظام بشار الأسد، قبل ترك جثثهم تتعفن في أقبيةٍ لا أحد يعرف مكانها.
وأذكر، أن إسرائيل كانت سباقة، منذ نشوئها، في انتهاك حرمة الموت، إنْ بتدميرها مقابر أصحاب الأرض الفلسطينيين وأضرحتهم، أو باحتجاز جثث الألوف من أبنائهم، في ثلاجات الموتى، وفي ما تُسمى مقابر الأرقام، فتراتٍ تمتد إلى عشرات السنين، لاستخدامها أوراق مساومة سياسية وأمنية.
عود على بدء، تظل التساؤلات قائمة، وإن احتاجت بعض تعديل؛ لماذا يموت الأطفال قتلاً في بلادنا، وكيف لأبٍ أن يواسي طفلته في حزنها على موت عصفور، وهو يعلم ما لم تعلم بعد، عن أبناء جيلها الذين تمزّقهم صواريخ الغزاة، والعصابات الحاكمة، فلا يحظون في موتهم الجماعي المعلن، حتى بقبورٍ بسيطة، كالذي حفرته هي وصديقتها لطائر ميت في حديقة بيتها.
ستقفز إلى خاطري هنا عبارة منقولة عن الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، يقول فيها "الغزلان تحب أن تموت عند أهلها. الصقور لا يهمها أين تموت".
حسناً أيها المعلم؛ وماذا عن العصافير؟
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني