الطبقة الوسطى تتلاشى... تحوّلات اجتماعية ــ اقتصادية للأسوأ في لبنان

الطبقة الوسطى تتلاشى... تحوّلات اجتماعية ــ اقتصادية إلى الأسوأ في لبنان

14 سبتمبر 2020
كارثة حقيقية تتجه إليها طبقة كاملة (حسين بيضون)
+ الخط -

تلقي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بثقلها على اللبنانيين، مبدلةً أحوال فئات منهم نحو الأسوأ، لا سيما بعد زيادة عدد الفقراء على نحو غير مسبوق، وتآكل الطبقة الوسطى، التي خسرت أمانها الاجتماعي والاقتصادي، وأصبحت مجبرة على التكيف مع واقع جديد واتخاذ خيارات صعبة تطاول نمط حياتها

قبل انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الماضي، كانت العاصمة اللبنانية تكابد للبقاء على قيد الحياة. شوارعها التي اعتادت زحمة المارة كانت تذوي ببطء، وحدها جدران الإسمنت التي تسوّر منازل السياسيين ومؤسسات الدولة والمصارف اللبنانية كانت ترتفع لتكون شاهدة على كيف يتحصن من يتحكم بمصير البلد وخرابه خلف الأسوار، غير آبه بتحولات تنقل سكان المدينة وباقي اللبنانيين من حال إلى أخرى أشد إنهاكاً وبؤساً. هذا الوضع ترجم نفسه سريعاً على الأرض. أحوال السكان الاجتماعية والاقتصادية المتردية لم تعد تخطئها العين من جراء زيادة البطالة وتفاقم معدلات الفقر والرغبة في الهجرة، باعتبارها وصفة الخلاص لكلّ من يكتب له النجاة في هذا البلد.

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

ولمجمل هذه التغييرات تداعيات تسحق الفقراء وتضيّق خيارتهم إلى حدها الأدنى تماماً مثلما تطرق بقوة أبواب من ينتمون إلى الطبقة الوسطى، مهددة استقرارهم السياسي والاقتصادي، ومؤذنة ببداية مرحلة جديدة في لبنان عنوانها تآكل هذه الطبقة. ولا يمكن تجاوز ما يفرضه هذا الأمر من ارتدادات عميقة داخل المجتمع في مختلف النواحي، من جراء الدور المؤثر الذي لطالما أدته هذه الطبقة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، سواء في فترة ما قبل الحرب الأهلية أو بعدها، فضلاً عن ظهورها في الشارع على نحو واضح في انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 (حراك شعبي مطلبي يغلب عليه الطابع الشبابي)، وإن كان يسود اعتقاد بأنّ التداعيات السياسية لهذه التحولات في الطبقة الوسطى ستأخذ وقتاً أطول للبروز بانتظار اتضاح حجمها وحدودها.

من سيئ إلى أسوأ
يتحسر وليد (47 عاماً) على الوضع الذي وصل إليه لبنان. يقول بينما يجلس أمام متجره في حيّ زقاق البلاط، في العاصمة بيروت، لـ"العربي الجديد" إنّه لن يصلح الواجهة الزجاجية لمتجره الصغير التي تحطمت بفعل انفجار مرفأ بيروت لأنّه "لا داعي لدفع ليرة واحدة في هذا البلد". يضيف: "الوضع لم يعد يحتمل... منذ مدة كانت تراودني فكرة الهجرة مجدداً، كنت أقاومها لكن الآن استسلمت". لبنان في رأيه "ظالم بحق أبنائه. لا يتيح لنا فرصة للاستقرار والشعور بالأمان. العالم يخطو للأمام ونحن نتراجع إلى الوراء". يشرح التحولات التي مرّ بها قائلاً: "كنت أتمكن من دفع إيجار منزلي ومتجري بيسر، لكنّي اليوم عاجز عن ذلك. أفكر يومياً بحال طفليّ وكيف سأؤمّن تعليمهما. يقولون لي إنّ الأمر سهل، إذ يمكنك نقلهما من المدرسة الخاصة إلى الرسمية ويمكنك الانتقال إلى منزل إيجاره أقلّ، لكنّ ذلك صعب. أفضّل التضحية بسنوات إضافية من عمري والغربة مجدداً على أن يدفع طفلاي ثمن ذلك".
يعاني لبنان منذ نحو عام من أزمة اقتصادية طاحنة ترافقت مع انهيار غير مسبوق في قيمة العملة المحلية أمام الدولار. وجاء تفشي فيروس كورونا الجديد وما رافقه من إقفال للمؤسسات الاقتصادية وصرف جماعي للعمال من المؤسسات ليضاعف الصعوبات المعيشية لآلاف الأسر، قبل أن يشكل انفجار مرفأ بيروت والخسائر التي تسبب بها الضربة الأقسى. وكلّ هذه الأزمات مجتمعة أدت إلى تحولات اجتماعية واقتصادية متسارعة من أولى نتائجها الأكثر ظهوراً بالعين المجردة زيادة في نسب الفقراء، لا سيما بعد تآكل في الطبقة الوسطى.

الصورة
تحرك أمام البرلمان اللبناني- حسين بيضون
تسارع التدهور بعد 17 أكتوبر 2019 (حسين بيضون)

تآكل
تشير دراسة حديثة صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (إسكوا) في أغسطس/ آب الماضي بعنوان "الفقر في لبنان: التضامن ضرورة حتميّة للحدّ من آثار الصدمات المتعددة والمتداخلة" إلى أنّ "العدد الإجمالي للفقراء من اللبنانيين أصبح يفوق 2.7 مليون بحسب خط الفقر الأعلى (أي عدد الذين يعيشون على أقل من 14 دولاراً أميركياً في اليوم). وهذا يعني عملياً تآكل الطبقة الوسطى بشكل كبير، وانخفاض نسبة ذوي الدخل المتوسط إلى أقل من 40 في المائة من السكان". وبحسب الدراسة "ليست فئة الميسورين بمنأى عن الصدمات، بل تقلّصت إلى ثلث حجمها هي أيضاً، من 15 في المائة في عام 2019 إلى 5 في المائة في عام 2020". وتفسّر دراسة أخرى متصلة بالأولى بعنوان "أثر جائحة كوفيد-19 على توزيع الثروة والفقر في لبنان" المنهجية المعتمدة من قبل معديها لاحتساب الارتفاع الكبير في نسبة عدد الفقراء والتمييز، بين ما تقول إنّه خط الفقر الوطني الأعلى البالغ 14 دولاراً في اليوم، وبين خط الفقر الأدنى البالغ 8.5 دولارات في اليوم. وتقول إنّه بالاستناد إلى افتراضات النمو الأكثر واقعية، وإلى خط الفقر البالغ 14 دولاراً في اليوم، يقفز معدل الفقر من 28 في المائة في عام 2019 إلى 55.3 في المائة في عام 2020 .أما الزيادة في حالة خط الفقر البالغ 8.5 دولارات في اليوم، فهي من 8.2 في المائة إلى 23.2 في المائة. وبذلك، يصل العدد الإجمالي للفقراء بين السكان اللبنانيين في عام 2020 إلى 1.1 مليون على أساس الخط الأدنى و2.7 مليون على أساس الخط الأعلى. هذه الأرقام والتفاصيل يزيدها تعقيداً غياب القدرة على ترجمة "الدولار" المستخدم في الدراستين، إذ إنّه لا يستند إلى سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية الذي يعادل 1500 ليرة منذ المنتصف الأول للتسعينيات، أو إلى سعر صرف السوق السوداء الذي يتجاوز 7 آلاف ليرة، بل إلى ما تسميه الدراسة "الدولار الذي يعادل القوة الشرائية لدولار عام 2011"، وهو ما يحدده البنك الدولي بـ830.6 ليرة.

انحدار منذ 2010
يسجل الباحث في "الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات مستقلة)، محمد شمس الدين، في حديث مع "العربي الجديد"، تحفظه على الأرقام الصادرة عن اللجنة، قائلاً: "صحيح أنّ الأرقام انتقلت من 28 في المائة إلى 55 في المائة، لكن ليس في عام واحد، بل الانحدار بدأ عملياً عام 2010 عندما كانت تشكل الطبقة الوسطى 70 في المائة، إلى أن وصلت في 2020 إلى 40 في المائة". ومع تأكيده أنّ العام الحالي شهد ارتفاعاً غير مسبوق في نسبة من انتقلوا من الطبقة الوسطى إلى طبقة الفقراء، يوضح أنّ هؤلاء ينقسمون اليوم إلى فئتين؛ الأولى تشكل نسبتها نحو 30 في المائة، ويتيح دخل هذه الفئة تأمين شراء المستلزمات التي تضمن لها نظاماً غذائياً صحياً (التقديرات حالياً تشير إلى حاجة عائلة مؤلفة من 5 أشخاص إلى مليون و200 ألف ليرة شهرياً لتأمين احتياجاتها أي 800 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي)، أما الفئة الثانية، أي القسم الثاني الذين يشكلون الـ25 في المائة الأخرى من أصل 55 في المائة، فإنّ دخلهم لا يكفي للحصول على نظام غذائي صحي. ويلفت إلى أنّه إذا استمر الوضع في التراجع من دون معالجة الانحدار فسنكون أمام تحولات عدة. يلخص أبرزها بارتفاع المشاكل الاجتماعية (كالطلاق)، وتراجع معدلات الزواج والإنجاب، وتزايد معدل السرقات (ارتفع بحدود 32 في المائة مقارنة بالعام الماضي)، وتزايد في تعاطي المواد المخدرة. كذلك، يتحدث عن حالة أخرى بدأت تنتشر وهي الهجرة العكسية من المدينة إلى الريف، لأنّ كثيرين من أبناء القرى انتقلوا في فترات سابقة إلى المدن الكبرى من أجل تأمين فرص عمل أفضل، واليوم في ظل البطالة قرروا العودة إلى قراهم.
وتوضح أرقام "الدولية للمعلومات" المنشورة في مايو/ أيار الماضي أنّه قبل 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 كانت البطالة تطاول نحو 350 ألفاً، أي من نسبتهم 25 في المائة من حجم القوى العاملة... وبنتيجة حالة الجمود التي شهدها لبنان منذ 17 أكتوبر، والتي زادت حدةً مع تفشي وباء كورونا فقد صرف من العمل نحو 80 ألفاً ليرتفع العدد الإجمالي إلى 430 ألفاً أي 32 في المائة. وتقدّر المؤشرات "إمكانية ارتفاع أعداد العاطلين من العمل في الأشهر المقبلة إلى نحو مليون عاطل من العمل أي 65 في المائة من القوة العاملة".
ويضاف إلى ذلك تزايد الرغبة لدى اللبنانيين بالهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرصة أفضل للحياة، إذ يندر اليوم أن يغيب حديث الهجرة عن عائلة لبنانية كلما اجتمع أفرادها وتناقشوا في مستقبلهم أو مستقبل البلد، فيما تغيب الأرقام الدقيقة التي توثق هذه الحالات. وشهدت الآونة الأخيرة عودة الهجرة غير النظامية عبر البحر تحديداً من ميناء مدينة طرابلس (شمال)، التي تعد أفقر منطقة على ساحل شرقي البحر المتوسط بحسب الأمم المتحدة.

ويقول شمس الدين إنّ آلية الدعم الحالية المعتمدة من قبل الدولة عشوائية وغير عادلة ولا تثبت نجاعتها إذ لم نشهد انخفاضاً في الأسعار، مشيراً إلى ضرورة تدعيم برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية. وبالفعل، بدأ المسؤولون في لبنان يتحدثون عن تغير في سياسة الدعم، بما في ذلك إعلان مصدر رسمي لوكالة "رويترز"، في 20 أغسطس/ آب الماضي أنّ مصرف لبنان المركزي لن يدعم الوقود والقمح والدواء لأكثر من ثلاثة أشهر أخرى في ظلّ تناقص احتياطيات العملات الأجنبية. كذلك، أكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في السادس من سبتمبر/ أيلول الجاري، في حديث تلفزيوني، أنّ هناك توجهاً لترشيد السلة الغذائية المدعومة ولتأمين بطاقة تموينية تتيح للبنانيين الشراء بقيمة 1515 للدولار من دون تحديد أيّ آلية لذلك. بدوره، طلب وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال، راوول نعمة، رفع الدعم عن السلع المتعلّقة بالإنتاج الحيواني والزراعي، متذرعاً بعدم انخفاض الأسعار، والذي تتحمل مسؤوليته الدولة كونها عاجزة عن مراقبة أداء الجهات المستفيدة من الدعم. وتعزز جميع هذه المؤشرات حالة القلق لدى اللبنانيين بشأن ما ستحمله الأشهر المقبلة من تدهور إضافي في أوضاعهم.

تكيف مع خيارات صعبة
تصف ميرنا بدران (39 عاماً) كيف تبدلت أحوال عائلتها بسبب الأزمة الاقتصادية. تقول: "كنا عائلة ميسورة، فمدخولنا قبل الأزمة أنا زوجي كان يعادل 7 ملايين ليرة (4600 دولار بحسب سعر الصرف الرسمي، ونحو ألف دولار في السوق السوداء)". تضيف: "كنا نعيش حياة لا ينقصها شيء. كلّ ما نريده لدينا القدرة على تأمينه. حتى ابنتي تتلقى تعليمها في واحدة من أغلى المدارس، لكن فجأة تغير كلّ شيء". تضيف: "كأنّنا هوينا من أعلى القمة إلى أسفلها. صُرف زوجي من العمل تعسفياً بينما كان انهيار العملة في أوجه. وهو إلى اليوم يخوض معركة لصرف تعويضه... وحتى إن حصل عليه نعرف أنّه سيتبخر في أيام بسبب تراكم الديون. راتبي لم يعد يكفي سوى لشراء احتياجاتنا من الطعام والشراب وتسديد القروض". تصف كيف وضعت العائلة أمام خيارات جديدة لم تكن معتادة عليها، وتقول ساخرة: "كنت أتصل دائماً بمحل البقالة، أطلب كلّ ما أريده ديليفري (خدمة التوصيل) من دون أن أسأل عن الثمن. اليوم هذا الأمر لم يعد ممكناً. بات العامل الذي يجيب على الهاتف معتاداً على أسئلتي، يسبقني في الحديث ويبلغني بالسعر الجديد. يقول لي زادت 500 أو ألف ليرة هل تريدين شراءها؟ أحياناً أشعر بالحرج منه لكن ما من خيار أمامي". تضيف: "الأمر لم يعد يقتصر على المأكل والمشرب. كلّ شيء تبدل. اضطرنا للتخلي عن جميع الكماليات. ألغينا اشتراكنا السنوي في المسبح، لم نعد نأكل في المطاعم". تتابع: "حتى ابنتنا اضطررنا للتفكير مطولاً بشأن إبقائها في مدرستها أو نقلها إلى أخرى أقل كلفة، لكنّنا اخترنا في النهاية أن نضحي هذا العام الدراسي فقط حتى تنال الشهادة المتوسطة (بروفيه) وبعدها سننقلها على الأرجح في المرحلة الثانوية إلى مدرسة رسمية".

الصورة
انفجار مرفأ بيروت- حسين بيضون
انفجار مرفأ بيروت فاقم الأزمات (حسين بيضون)

تبدل نمط الحياة
وفي السياق، يشرح المستشار في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، لـ"العربي الجديد" أنّ نصف من كانوا يعتبرون أنفسهم طبقة وسطى تراجع وضعهم من جراء الأزمة المستفحلة في لبنان أخيراً. وهذه الأزمة تظهر بوضوح على نمط حياتهم بالدرجة الأولى. وبالتالي، فإنّ ما يحدث معهم تغيير نوعي وليس كمياً. ويلفت إلى أنّ طريقة حساب الطبقات الوسطى من منظور الدخل فقط غير صحيحة، إذ لا بد من وجود مركب آخر. يقول إن الموضوع أكثر تعقيداً من مجرد عملية حسابية، وهو مركب اقتصادي، واجتماعي، وثقافي، مرتبط بنمط حياة معين لهذه الفئة.
يتحدث عن مجموعة من الخصائص أولها أنّ المنتمين إلى هذه الطبقة هم في العادة يعملون كوادر عليا، لديهم تعليم جامعي، ويمتلكون منازل وسيارات جديدة، ولديهم القدرة على السفر، أي يوجد لديهم إنفاق على الترفيه. وبالتالي، فإنّ أبرز مميزات الطبقة الوسطى موارد مادية، وقدرة على الادخار (ولا يعني ذلك أنّها تشمل من يمتلكون راتب شهرين أو ثلاثة إضافيين في المصرف) ويضعون أولادهم في الجامعات الخاصة… ويوضح نعمة أنّ نسبة هؤلاء قبل الأزمة كانت في حدود 14 في المائة. ويلفت إلى أنّ المراقب للتحولات سيجد أنّ الصرخة تتركز الآن في هذه الفئة التي تشكو الآن من غلاء أقساط المدارس الخاصة والجامعات، ومن القروض، وانعدام القدرة على الإنفاق الترفيهي. وهؤلاء هم من يشكلون الآن الزيادة الجديدة في نسبة الفقراء في لبنان.
ويوضح أنّه قبل الأزمة كانت نسبة الفقر في لبنان هي الثلث من العام 1995 إلى الآن، وكانت تتحرك على نحو بسيط كلّ عام. ولم يتغير هذا الرقم طوال السنوات الماضية وهو ما تؤكده أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية والأمم المتحدة. وغالباً كانت المناطق الغنية في لبنان مثل بيروت، وجبل لبنان، تضم نصف هذه النسبة من الفقراء. أما بقية المناطق الفقيرة مثل طرابلس، عكار، حاصبيا فتضم ضعفي هذه النسبة. لكنّ ما حدث اليوم أنّ هذه النسبة زادت من جراء تضخم الأسعار وانهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار والمشاكل الاقتصادية الأخرى مثل البطالة كما يقول. 
ويتوقف نعمة عند عدد المؤشرات التي يرى أنّها أكثر دلالة على ارتفاع نسبة الفقر. ويشير إلى أنّ 55 في المائة من القوى العاملة في لبنان غير نظامية، أي إنّ هؤلاء فقراء لا يمتلكون عقد عمل أو ضماناً صحياً، وبالتالي ازدادت، في ظلّ كورونا، أوضاعهم سوءاً، خصوصاً بعد خسارة جزء منهم لوظائفهم. كذلك، فإنّ نحو 54 في المائة من اللبنانيين بلا ضمان صحي، أي بلا حماية، وجزء من تعريف الفقير هو من يكون بلا حماية وغير مسجل بالضمان. المؤشر الثالث، كما يقول، نسبة التسجيل في المدارس الرسمية التي لطالما كانت ملجأ للفقراء. والنسبة كانت تتراوح بين 35 و40 في المائة، لكنّ هذه النسبة ارتفعت أخيراً.
ويشرح تحولات الطبقة الوسطى في لبنان، قائلاً إنّ "هذه الشريحة لم تكن هي نفسها على مدار المراحل التاريخية. على سبيل المثال، في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت الطبقة الوسطى تضم موظفي القطاع العام بشكل أساسي. في تلك الفترة، جرى تعميم التعليم وكانت الإصلاحات الشهابية (نسبة إلى عهد فؤاد شهاب 1958- 1964) تظهر نتائجها، فكان في الإمكان ملاحظة أنّ أبناء سكان الأرياف والمناطق الفقيرة انضموا إلى التعليم والدولة. وبالتالي، فإنّ موظف الدولة كان شخصاً متعلماً لديه بريستيج (هيبة) اجتماعي، وكانت الوظيفة العامة مجزية للناس. وخلال فترة الحرب الأهلية حصل إفقار لفئات عدة، لكن في المقابل كانت هناك شريحة قليلة حصلت على مزايا وتمكنت من مراكمة الثروات. ولاحقاً، انضمت فئات أخرى للطبقة الوسطى، مثل المنتمين إلى نقابات المهن الحرة وموظفي بعض القطاعات، أما اليوم فهناك محامون، وأطباء، ومهندسون إما فقراء أو من الطبقة الوسطى الدنيا وليست العليا، وهم الذين يعدون الأكثر تأثراً بالأزمة الراهنة".

ارتدادات سياسية 
وإذا كانت بعض التداعيات للأزمة الراهنة في لبنان ظهرت سريعاً على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فإنّ آثار التحولات داخل المجتمع اللبناني وتراجع الطبقة الوسطى لن تقف عند هذا الحد بل ستمتد إلى الشق السياسي، خصوصاً أنّ هذه الطبقة لم تكن بمنأى عن الحراك السياسي، وإن اتخذت في فترة ما بعد الحرب أدواراً جديدة سواء من داخل السلطة أو على هامشها أو في مواجهتها، عندما بدأت تشعر باختلال في موقعها وتراجع امتيازاتها بما في ذلك في الحراك الاحتجاجي الأخير بعد انتفاضة 17 أكتوبر 2019. وحضر جزء من هذه الطبقة على الأرض على نحو كبير طوال الأشهر الماضية متخلياً عن حالة الحياد التي كان يتبناها بعد شعوره بفقدان الأمان الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يتمتع به وأصبحت حريته الاقتصادية مهددة بالاندثار.

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

وإذا كان البعض يرى في وجود هذه الطبقة عامل استقرار اجتماعي وسياسي وحتى أمني، فإنّ ارتدادات تلاشي الجزء الأكبر منها ينتظر أن يترجم نفسه بأشكال عدة. وتحضر هنا التساؤلات حول شكل المواجهة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان خلال الفترة المقبلة، خصوصاً في حال التوافق مع صندوق النقد الدولي وسياسات الإفقار التي يحملها عادة. وتشير الباحثة في الاجتماع السياسي، فهمية شرف الدين، في حديث مع "العربي الجديد" إلى أنّ الطبقة الوسطى لطالما كان لها دور هام في لبنان، خصوصاً منذ مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ إنّ ما يصطلح على تسميته الطبقة الوسطى العليا من خلال النخبة السياسية والثقافية كانت تدير الدولة، إلى أن جاءت الحرب الأهلية والفترة التي تلتها، عندما كسرت الحرب هذا الواقع وأرست تمايزات جديدة، وأصبح من يدير الدولة يصل إلى منصبه بالواسطة والمال والملكية فقط. وتشدد على أنّه لا يمكن الحديث عن طبقة وسطى إذا لم تكن قادرة على التقدم من داخلها وبناء على كفاءتها، معتبرة أنّه من هذا المنظور لا وجود للطبقة الوسطى الآن، إذ إنّ تقسيم الفئات الاجتماعية اليوم غير واضح. وتشير إلى أنّه إذا لم تكن السلطات العامة قادرة على التقاط الشباب والبناء على كفاءاتهم وقدراتهم وإعادة تنظيم الحياة السياسية في البلد نكون أمام مشكلة. وتؤكد على أهمية هذه الطبقة لأنّها عادة من تكون قادرة على تسليط الضوء على القضايا الكبرى التي يجب على الشعب أن يواجهها. وتوضح أن الانحدار الحاصل اليوم يطاول من كانوا يصنفون ضمن الطبقة الوسطى العليا ممن يتراجعون إلى الطبقة الوسطى الدنيا أو ما دون ذلك.

الصورة
احتجاج أمام الجامعة الأميركية في بيروت لموظفين مصروفين- حسين بيضون
صُرف كثيرون من أعمالهم في سنة كورونا (حسين بيضون)

خط الفقر
يخلص المستشار في التنمية ومكافحة الفقر، أديب نعمة، في حديثه مع "العربي الجديد" إلى القول إنّه إذا ما افترضنا أنّ الدراسات الجديدة التي تتحدث عن نسب الفقر والطبقة الوسطى في لبنان صحيحة، فإنّ خط الفقر الدولي لا يصلح لإجراء مقاربات بين بلد وآخر (لأنّه ببساطة ليس خط الفقر اللبناني). ويوضح أنّ الدولار الدولي المعتمد في دراسة "إسكوا" (المستند إلى الدولار الذي يعادل القوة الشرائية لدولار عام 2011)، ليس مصمماً لرسم السياسات وتقييم مستوى الفقر في البلدان التي تشهد تقلباً في الأسعار وسعر العملة. ويلفت إلى أنّ طريقة الحساب تتم عادة بناء على نموذج رياضي، وهذا أمر إشكالي لأنّ الإحصاءات وطريقة الإسقاطات قائمة على فرضيات غير حاسمة. وفي بلدان مثل لبنان وسورية هذه الطريقة ليست الأنسب.

المساهمون