الشعر في الشبكة الزرقاء

الشعر في الشبكة الزرقاء

26 مارس 2014
"الفيسبوك".. أفق جديد للشاعر؟
+ الخط -

لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يوجد نقد حقيقي للشعر الذي ينشر حالياً في الجرائد والمجلات والدوريات الثقافية، أو ذلك الذي يصدر في مجموعات ودواوين يطمح أصحابها إلى أن تجد قارئاً مفترضاً لديه فضول لتذوق الشعر. وغياب هذا النقد له مبررات وأسباب ليست وليدة اليوم، ولا يسع المجال هنا للخوض فيها.

لكن هذا الغياب أدى إلى تراكم عدد من الظواهر الشعرية الجديرة بالتأمل والتي لم تحظ حتى الآن بما تستحق من اهتمام، كظاهرة ما صار يسمّى "شعر الفيسبوك"، أو "الشعر المنشور عبر الفيسبوك"، وما نتج عنها من أشكال جديدة في الكتابة والقراءة، وبالتالي من طرق جديدة للتفاعل بين القارئ والشاعر.

وتثير هذه الظاهرة العديد من الأسئلة التي لم تكن مطروحة سابقاً بهذه الحدة: هل يمكننا الآن، بعد سنوات من تغلغل "الفيسبوك" في حياة ويوميات وطقوس معظم الشعراء العرب، أن نتحدث عن جيل جديد من الشعراء يبلور تجربته ويطورها فقط عبر "الفيسبوك"، بعيدا عن أشكال النشر التقليدية؟ هل يغامر هذا "الجيل" فعلاً بأن تكون لتجربته خصوصية نابعة من طبيعة العلاقات التي تفرضها شبكة التواصل الاجتماعي في أبعادها التفاعلية والتشاركية المتجددة؟

ثم، هل يمكن الحديث عن سمات وقواسم مشتركة تجمع تجارباً ونصوصا متباعدة من حيث رؤاها وبنياتها ورهاناتها الفنية والجمالية، بعضها شبه مكتمل وناجز وقريب من روح الشعر، وبعضها الآخر لم يتشكّل بعد وينضج، ومع ذلك يُنشر على صفحات "الفيسبوك"، باقتناع وثقة غالباً، وعلى شكل مسودات تجريبية في بعض الأحيان، علماً أن هذه الصفحات تتيح لأصحابها ميزة هامة لا يتيحها النشر الورقي، وهي إمكانية التعديل والإضافة والتصحيح وحتى حذف وسحب المنشور نهائياً إذا اقتضى الحال ذلك؟

بشكل عام، "الشعر المنشور عبر الفيسبوك" لا يختلف في شيء عن الشعر الذي ظل حتى الآن ينشر في وسائط أخرى، وربما من السابق لأوانه الحديث عن ميزات خاصة يتّسم بها. لكن من المحتمل أن يتمخّض هذا "الفضاء الأزرق" عن أساليب وطرق جديدة في الكتابة أو تقنيات لعرض النصوص بطريقة مختلفة من شأنها أن تفتح أفقا شعرياً جديداً.

يمكن تصنيف ما ينشر من هذا الشعر ضمن نوعين رئيسيين: صفحات خاصة بالشعراء، المشهورين والأقل شهرة، الأحياء منهم والأموات، تدار عن طريق شخص ثان غير الشاعر نفسه، مثلا صفحة خاصة بأدونيس وأخرى بمحمود درويش وثالثة بالمتنبي.. إلخ. وصفحات يديرها وينشط فيها الشعراء أنفسهم بشكل مباشر ويومي تقريباً. وتختلف طبيعة النصوص المنشورة هنا من شاعر إلى آخر، فهناك من ينشر قصائدَ مطولة كاملة فيما يكتفي آخر بمقاطع صغيرة فقط، وهذه الأخيرة عادة ما تلقى قبولا ومتابعة أكبر بسبب سهولة وسرعة التصفح التي يتميز بها عموماً قراء "الفيسبوك".

إذا كان هذا حال كتابة الشعر ونشره على "الفيسبوك"، فإن الأمر يختلف بالنسبة لتلقيه والتفاعل معه من طرف القراء. فمع "الفيسبوك" انتقلنا من قارئ مفترض غير محدد المعالم إلى قارئ افتراضي شبه معروف. القارئ المفترض هو القارئ التقليدي المتتبع للصحافة الورقية والمطبوعات والدوريات المختلفة، الذي يذهب للقاء الكتاب سواء في المكتبات أو في المعارض أو يسعى لاستعارته من آخرين. وهو على العموم يبقى مجهولا بالنسبة للشاعر ومن الصعب التحقق من عملية تلقيه للنص. بينما يمكننا التعرف نسبيا على بيانات القارئ الافتراضي وبعض من اهتماماته وآرائه الشخصية، كما يمكن التعرف على درجات تفاعله مع النص. إنه قارئ بسمات جديدة وصفات تقريبية لكنه موجود هنا والآن على الأقل، ولو افتراضياً.

موجود لأنه غالباً ما يصرّح بفعل القراءة في زمنه شبه الحقيقي. إنه يقرأ ويترك علامة على مروره، أثراً "مادياً" مرئياً للآخرين. وهو قد يبادر بدوره لنشر ما يبدو له مهمّاً لمشاركته مع آخرين، من خلال تعليقات وردود ورسائل وغيرها. إنه قارئ متحقّق ومتحفز وحاضر دائماً، وليس شبحاً رقمياً متربّصاً بالكاتب وراء خيط من خيوط الشبكة، مثلما جرى تصويره ببشاعة وسوء نيّة حتى الآن. لهذا يمكن القول أن الشعر المنشور عبر "الفيسبوك" لديه حظوظ أكبر في القراءة والمتابعة والتعليق من الشعر المنشور بوسائط أخرى "تقليدية".

وبالتالي، لا نرى مشكلة في انفتاح الشعراء على "الفيسبوك" ونشر نصوصهم الشعرية عبر جدرانهم الشخصية أو المنتديات الخاصة، لأنه في النهاية الرابح الأكبر هو الشعر وقراؤه ومتذوقوه. كما لا خوف من بعض الظواهر المألوفة في عالم النشر مثل تكرار السرقات الأدبية واستعارة بعض الاقتباسات دون نسبتها لأصحابها، لأن من السهل اكتشافها بعد ذلك وفضحها.

لكن ما يُخشى حقيقة على الشعر من "الفيسبوك" هو "التنميط" وفرض شكل وحيد للقول الشعري، عبر هيمنة الكليشيهات الشعرية وغلبة الكتابات الوجدانية المتذرعة بمقاربة اليومي والمباشرة، حيث تصبح جميع النصوص متشابهة كأنها نسخت عن بعضها البعض، بشكل يقتل روح الشعر التي تعلي دوما من شأن الصوت الشخصي المتفرد، الخارج عن مواضعات الجماعة "الشعرية" وذوقها "الصحيح أدبياً" الذي يحاول البعض تكريسه عبر نصوص ركيكة ومبتسرة تفتقر لأبسط مقومات الشعر لغة ورؤيةً وخيالاً.


* شاعر من المغرب

دلالات

المساهمون