السوريون والبحث الصعب عن فرح

السوريون والبحث الصعب عن فرح

22 ابريل 2014

.. إشارة إلى لوحة للفنان يوسف عبدلكي (أ.ف.ب)

+ الخط -

لماذا المطلوب تدمير سورية؟ ألم يكفِ كل هذا التدمير الوحشي للبشر والحجر؟ إلى متى يبقى السوريون سجناء المأساة؟ أين المجتمع الدولي والضمير العالمي؟ هذه الأسئلة هي القاسم المشترك بين جميع السوريين، أيّاً كانت طوائفهم وطرق تفكيرهم. ألاحظ مدى الانهيار النفسي للمواطن السوري، أراه يتخذ أشكالاً عديدة. وأظن أن على طلاب الطب النفسي، ممن يعدّون أطروحات التخرج، أن يحضروا إلى سورية، ليجدوا مواد غنية، للبحث في تنويعات القهر والإحباط واليأس والألم. يكفي أن أكتب ملاحظاتٍ عما أسمعه وأشاهده، في يوم واحد من الجحيم السوري، لندرك أيَّة هاويةٍ رهيبةٍ من الهدر الوجودي والإحباط، وصل إليهما السوريون.
كيف أصف هول الألم والقهر البادي في صوت أم سوريةٍ تسألني، كما لو أنها تسأل القدر: لماذا المطلوب تدمير سورية؟ ما ذنب الشعب السوري؟ ثم تشكو لي همها أنَّ ابنها الذي كان متفوقاً في دراسته الجامعية صار لا مبالياً، ولا يطيق الدراسة، ولم يعد يتحدث معها باحترام. يصرخ فيها بوقاحة، كلما نبهته إلى أنه يُهمل دراسته: لماذا عليَّ أن أتخرج من الجامعة، لكي ألتحق بالجندية، وأعود إليك، بعد أسابيع، جثة، أو شهيداً بطلاً؟ يحرّض كلامها ذاكرتي، لأستعيد قول أم سوريةٍ متألمةٍ لي: محظوظة من تستلم جثة ابنها وتدفنها. أعرف مئات الأمهات الثكالى لم يستلمن جثث أبنائهن، ولا نتفاً منها. صار استلام جثة شاب سوري، قدره أنه زُجَّ في معارك، لا يعرف دوره فيها، ولم يختر الاستشهاد، ولا الموت، نوعاً من الترف والرفاهية والحظ. أن تبقى في سورية محتفظاً بكيانك، بمادة جسدك، كنت جثةً مدفونةً في قبر، أو مدفونةً في الحياة بكفن من القهر والألم والهدر الوجودي، هو الامتياز الوحيد للعيش فيها.
مفزعٌ أن ترى مئات الشبان والرجال يدخنون الأركيلة، منذ ساعات الصباح الباكرة، تغصُّ بهم مقاهي اللاذقية التي كتب بعضها بالخط العريض: أركيلة بخمسين ليرة سورية (أقل من نصف دولار)، مثل مشهد عشرات الأطفال السوريين الذين تتنافس الفضائيات في عرض صورهم، متلاصقين فوق سريرٍ، يختنقون من غازاتٍ سامةٍ اجتاحت رئاتهم، والأطراف المتصارعة تتبادل اتهامات بشأن من استعمل هذه الغازات، لأن هؤلاء الشبان خسروا كل ثقةٍ بالحياة وبالإنسانية، ولم يبق لهم سوى التنفيس عن ضيقهم بتدخين الأركيلة، أو ابتلاع مادةٍ وحيدةٍ، لم يرتفع سعرها في سورية: السُّم.
لكن، لم أتوقع أن يكون للفرح، أو لما يشبهه، هذا الوقع المُوجع المأساوي. الفرح السوري يوجع أكثر من الألم، كما لو أنهما في سورية وجهان لعملةٍ واحدة، هي الإنسان المُعذب المثقل بالمأساة. ويبدو أن الإنسان يتوق إلى الفرح، والترويح عن روحه المُختنقة بوسائل عديدة. ويبدو صحيحاً أن الإنسان محكوم بالأمل، فأن يتمكن سوريٌّ من الحصول على جواز سفر فذلك انتصارٌ وإنجاز عظيم، يجعله وأسرته يضحكون، ويشعرون بأن معجزةً تحققت، وأنهم محظوظون بالحصول على جواز سفر غالباً ما يتطلب الحصول عليه انتظار أشهر. أن يتمكن مواطن، أو مواطنة سورية، من عبور الحدود من سورية إلى لبنان، انتصار عظيم أيضاً. أن تتجاوز حاجز الأمن العام السوري وفرائصك تتقصف رعباً من احتمال أن تُعتقل، لألف سبب وسبب، أو من دون سبب، هو انتصار، وعلامة طبية مؤكدة أن قلبك في حالة صحية ممتازة، كونه تحمّل كل هذا الكم الكثيف من الذعر، وأن تجتاز الحاجز اللبناني، ويُسمح لك بدخول لبنان بعد انتظار طويل على الحدود هو انتصارٌ مدوّ ٍ أيضاً.

"
من يُبالي كيف يشعر السوري، وهو يتفرج على مواكب الشهداء تعبر المدن، وعلى رحلات داخلية للطائرة بين دمشق وجبلة، محملة بجثث شبان سوريين، ماتوا بالبساطة التي تموت بها الفراشات المُحترقة بالنور، أو بالبساطة التي تموت بها الحشرات، بعد أن تُرش بالمبيد السام

"


الفرح الأعظم عندما يتمكن السوري، الذي أجبره عهر العالم أن يتسول، من الحصول على تأشيرة دخول إلى أية دولة أوروبية أو عربية، لزيارةٍ قصيرة أو للجوء. إنها طوق نجاةٍ من وطنٍ تحول إلى مسرح للجنون. من يُبالي كيف يشعر السوري، وهو يتفرج على مواكب الشهداء تعبر المدن، وعلى رحلات داخلية للطائرة بين دمشق وجبلة، محملة بجثث شبان سوريين، ماتوا بالبساطة التي تموت بها الفراشات المُحترقة بالنور، أو بالبساطة التي تموت بها الحشرات، بعد أن تُرش بالمبيد السام؟ من يُبالي إن كان السوري يفقد صوابه، وهو يشاهد كل يوم المذيعة، مفرطة الأناقة، تشرح له على خريطة، المعارك الدائرة في سورية، وتثقفه بأن تذكر له بالتفصيل أسماء الجماعات المتقاتلة وشعاراتها. ولا أنسى سؤال طفل سوري، لم يكمل السابعة من عمره: طيب لماذا داعش وجبهة النصرة يقتلون بعضهم؟ يا للثقافة العالية التي تنتظر أطفال سورية!
لكنْ، ثمة إصرار على الفرح، ثمة الأطفال، يوم عيد الشعانين، متأنقون وحاملون شمعة مزينة بالزهور والورود، يتأبطون أيدي أهل يدارون عنهم أحزانهم، ويذهبون إلى الكنيسة. يا لمنظر هؤلاء الأطفال ! وأحب أن أذكر بكل اعتزاز أن بعضهم غير مسيحيين. لكن، أراد أهلهم أن يهدوهم شيئاً من فرح، فاشتروا لهم شمعةً وزينوها بالورود. مشهد يدعو إلى الفرح، إلى شعور خجول بالفرح، موكب من الأطفال بثياب جميلة، وأحذية جديدة، يحملون شمعةً، ترمز إلى غصن الزيتون وإلى السلام، يمشون من دون أن يعيروا "اهتماما" للحواجز والجنود والبواريد، مُنتشين بفرحة عيد، ولم يتعلموا بعد أن يقولوا: عيد وبأية حال عُدت يا عيد. هؤلاء الأطفال يعطوننا جرعةً من الحماسة والأمل. إنهم مضاد اكتئاب حقيقي، ومن أجلهم، لن يستسلم الكبار للإحباط واليأس، من أجل أطفال سورية، سنرفض أن يكون قدرنا هو المأساة والتدمير والقتل.
الفرح السوري معجونٌ بالألم، فرحٌ يحرق كالألم تماماً. لا شيء أصعب من الإحساس بانعدام الأمان، وهو الذي يوحّد السوريين. من ذلك حديث موجع بين صديقتين، تقفان أمام واجهة أحد المحلات، ترغب إحداهما في أن تشتري مزهرية جميلة، لتضع فيها زهوراً، لكن صديقتها تذكّرها بأنهما يمكن أن ينزحن في أي لحظة، عندما يحين دور المدينة، أو الشارع، في معارك الوحشية والجنون، وتذكرها بالليلة - اللي ما فيها ضوء- حين نزح كل أرمن كسب إلى اللاذقية. لم يعد سوريون كثيرون يشترون شيئاً، ليس بسبب الغلاء الفاحش، بل لقناعتهم أن تلك المشتريات ستكون عائقاً وعبئاً عليهم، عندما يأتي دورهم في النزوح.
أَن تتشكل قناعة لدى السوريين، الباقين أحياءً ولا يزالون يعيشون تحت سقفٍ لم يُقصف بعد، بأن يروضوا جهازهم العصبي على أن النزوح هو الاحتمال الأكثر توقعاً لمستقبلهم، إن بقي لهذه الكلمة من معنى في سورية. مستقبل سورية أشبه بشيك بلا رصيد. إن فرحهم يتحول نوعاً من الزهد في الحياة والمقتنيات والمشتريات، لأنها تعيقهم عند لحظة النزوح. يشعرون بأن عليهم أن يكونوا كطيور السماء وسنابل القمح، وبأنهم سعداء سعادة الانعتاق، سعادة من غادر الأرض، لكنه بقي مُعلقاً بين الأرض والسماء. ... الفرح في سورية أصدق مرآة للمأساة وللحزن فيها.

 

 

 

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية