السودان وملاحقة القطط السمان

السودان وملاحقة القطط السمان

28 يوليو 2018
+ الخط -
سنوات، ولا صوت يعلو على صوت الفساد المستشري وسط المؤسسات الحاكمة والحكومة في السودان. حجم الفساد، أشكاله ومضمونه واقترانه بأفراد وقيادات في حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) هو الموضوع الأكثر تناولا في مؤلفات وكتب نشرتها قيادات سابقة في الحركة الإسلامية، وضمّنوها وثائق رسمية كثيرة كانت بين أيديهم، أشهر تلك الكتب التي أصدرها فتحي الضو، وموضوعها وثائق مسربة عن الفساد السياسي والأمني والاقتصادي الذي لا يكاد يستثني مؤسسة في الدولة. كتب ضخمة الحجم، والسبب ليس ما تضمّنته من تحليل، وإنما كثرة الوثائق الدامغة لأشكال الفساد السرطاني وألوانه، ما أكسب كتب فتحي الضو صفة "ويكيليكس السودان". وفوق ذلك كله، ينفرد ديوان المراجع العام في السودان بأنه صاحب الرصيد الأكبر من منشورات الفساد الرسمية والموثقة، ومن مصادرها، باعتباره جهة حكومية فوق الغرض والشبهات. جعل هذا الرصيد السودان في مقدمة الدول في سلم الفساد العالمي. واللافت أن كل مجموعة أو أفراد يوجه لهم التهم بالفساد لا تخرج عن دائرة الصفوة الحاكمة من قيادات الجبهة الإسلامية وأعضائها، وهي التي قفزت إلى الحكم بعد انقلاب عام 1989.
وبعد تولي الفريق صلاح قوش، في فبراير/ شباط الماضي، مسؤولية جهاز الأمن في السودان للمرة الثانية، لا يكاد يمر يوم من دون تسرب أخبار عن القبض على شخصية مهمة في الدولة، في إطار ما أعلن عنه الرئيس عمر البشير، ونائبه بكري حسن صالح، عن حملة لمحاربة الفساد. وفي كل مرةٍ يجري فيها القبض على شخصية ممن سماهم الرئيس بالقطط السمان، أو رموز الفساد في الدولة، تصحبها درجة أعلى من الدهشة، لحجم الفساد والمبالغ التي تتم
 مصادرتها. ويقف اسم اللواء عبد الغفار الشريف، النائب السابق لمدير جهاز الأمن، باعتباره أحد أهم الشخصيات التي جرى اعتقالها، فقد تجاوزت قصته حدود الدهشة، إذ ضبط في حوزته وفي منزله 120 مليون دولار نقدا، ما فتح الباب أمام أسئلة كثيرة بشأن عدد الأشخاص مثله داخل جهاز الأمن، أو من المسؤولين الحكوميين الذين يحتفظون بمبالغ مثل هذا في بلد تواجه بنوك عديدة فيه اليوم شبح الإفلاس لانعدام العملة الصعبة. ما تسرّب عن الرجل أنه دفع عن نفسه التهمة، كما نقلت صحف سودانية، أن تلك الأموال خاصة بتسيير أعمال إدارته في جهاز الأمن. وقد أورد الصحافي محمد وداعة أن المبلغ الذي تم ضبطه يتجاوز حجم موازنة جهاز الأمن والمخابرات الوطني نفسه عام 2018 وقدرها حوالي 4.3 مليارات جنيه سوداني، بينما يعادل مبلغ 120 مليون دولار 4.8 مليارات جنيه، أي أن مديرا سابقا لواحدة من إدارات الأمن تحت يده مبلغ يفوق الموازنة المعلنة للجهاز بكامله، الأمر الذي يثير الفضول بشأن عدد الإدارات في جهاز الأمن وحجم موازنة كل واحدة منها. ويشير كتّاب آخرون إلى استقالة وزير الخارجية السابق، إبراهيم غندور، لعدم توفر مبلغ 27 مليون دولار، مخصصات السفارات في الخارج. وإلى إقالة وزير الصناعة الذي قال إن مصفاة النفط في الخرطوم فشلت في توفير مبلغ 102 مليون دولار من البنك المركزي ووزارة المالية، ما تسبب في أسوأ أزمة طاقة يشهدها السودان، ولا تزال ماثلة.
لا يثير كل هذا الضجيج مع عمليات الحجز والاعتقال المواطن السوداني، إذ يضعها في خانة تصفية الحسابات الداخلية بين الصفوة الحاكمة، فقد حفلت السنوات الماضية من حكم عمر البشير بعمليات كثيرة مشابهة، لم تسفر عن أحكام رادعة أو استرداد للأموال. ولا تزال الألغاز تلفّ مصير عائدات السودان النفطية، أو عائدات الذهب أوغيره من ثروات السودان، والتي بقيت في خانة الأسرار الخاصة لقيادات الحزب الحاكم والرئاسة.
انتهت حالات الاعتقال وتجارب الماضي، وبسبب تعدّدها وإشاعة رائحة الفساد بشكل كريه، إلى ابتداع فتاوى من بعض المنتمين لهيئة علماء المسلمين في السودان، بتطبيق بدعة التحلل، حماية للفاسدين من العقاب على ما ارتكبوه من سرقاتٍ واختلاساتٍ وتصرّف في المال العام. فتوى تحث الجهات العدلية على الاكتفاء من السارق أو المسؤول المتصرّف في أموال الدولة، بإعادته المال المنهوب، أو ما تبقى منه من دون التعرّض للمحاكمة أو السجن.
يبقى السؤال، ومع حالة استشراء الفساد في كل مرافق الدولة السودانية، بما في ذلك الأجهزة الأمنية نفسها، والتي أصبحت اقتصاديا دولة داخل الدولة، من سوف يحاسب من؟ وفي ظل حالة التعتيم المفروضة على أخبار المعتقلين، وغياب الشفافية واستباق جهاز الأمن إلى إيقاف
صدور صحف واعتقال وتوقيف صحافيين عن مزاولة مهنتهم، بسبب نشر أخبار تعلقت بتفاصيل اعتقال عبد الغفار الشريف، فذلك كله يلقي ظلالا من الشك على مدى جدّية الدولة في محاربة الفساد.
ولا تكفي تأكيدات الحكومة على "توفر الإرادة السياسية لمكافحة الفساد"، كما قال الناطق الرسمي باسم الحكومة، أحمد بلال عثمان، الذي لن يقنع أحدا بحديثه المتفائل جدا هذا، وقوله إن الحكومة لن تتوقف "حتى يكون السودان خالياً من الفساد والمفسدين"، فالسودان أغرقته الصفوة الحاكمة في مستنقع فساد، يصعب الخروج منه إلا بمغادرة هذه الصفوة، واجتراح أفكار ومنهج جديد للحكم في السودان. وبدون تغيير جذري يبقى الفساد ويبقى المفسدون.

دلالات

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.