الزواج المدني.. معركة لزوم ما لا يلزم!

الزواج المدني.. معركة لزوم ما لا يلزم!

25 فبراير 2019

لبنانيون في زواج جماعي في بكركي (2/9/2018/فرانس برس)

+ الخط -
"هل بالإمكان أن ندلي برأينا حول الزواج المدني من دون التعرّض للتكفير؟ كفى استخدام الدين لتفرقة المواطنين".. صاحب هذا الكلام هو زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، وليد جنبلاط، بالذات، وليس أي شخص عادي. كلام يؤشّر إلى مدلولات مقلقة وخطيرة، والمناسبة هي إعلان وزيرة الداخلية في الحكومة اللبنانية الجديدة، ريا الحسن، وهي امرأة تحتل هذا المنصب لأول مرة في لبنان والعالم العربي، عزمها على إطلاق آلية حوارٍ لإقرار قانون الزواج المدني الذي يطرح خطوةً أولى للتخفيف من إحكام الشرنقة الطائفية والمذهبية قبضتها على حياة اللبنانيين، وعلاقاتهم الاجتماعية والعاطفية. ومعلوم أن ليس في لبنان قانون مدني للأحوال الشخصية يساوي بين جميع اللبنانيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية، وإنما لكل مذهب قوانينه وإجراءاته وأطره الخاصة به، مثل المحاكم الدينية التي تُعنى بأمور الزواج والطلاق والميراث، ما يعطي السلطات الدينية صلاحياتٍ واسعةً واستنسابيةً للتحكّم بمصائر الناس وحيواتهم الخاصة، ويجعلهم عرضةً للابتزاز والاستغلال المادي. ولمشروع الزواج المدني أهمية خاصة، نظرا لتركيبة لبنان التعدّدية والمتنوعة طائفيا وثقافيا واجتماعيا، والمختلطة والمتداخلة والمتشابكة في الوقت عينه. وينتج عن هذا النسيج والاختلاط الطائفي والاجتماعي، يضاف إليه العامل الحضاري، أن لبنانيين كثيرين يتزوجون من خارج طوائفهم أو يتزوجون من الطائفة نفسها، ولكنهم يرفضون الخضوع لنير المحاكم الشرعية. وبما أنه ليس في مقدور الفئتين تحقيق رغباتهما خارج قوانين الكنيسة، أو المحاكم الشرعية الإسلامية، فيعمد هؤلاء إلى السفر إلى قبرص، الواقعة على رمية حجر، ثم لاحقا في أوروبا، لعقد زواجهم المدني، ثم يعودون، مع أوراقهم، ويسجلون زواجهم في سجلات الدوائر الرسمية. وعلى الرغم من أن هذه الممارسة بالالتفاف على القوانين قائمة منذ عقود، فلم تسع الحكومات المتعاقبة إلى 
إيجاد مخرج لها بوضع تشريعاتٍ تمكّن من يريد أن يعقد زواجه لدى المحاكم المدنية.
نفاق، تقاعس أم تواطؤ بين السلطة والمحاكم الروحية؟ طبعا ليست هذه المرة الأولى التي يطرح فيها الموضوع، ففي كل مرةٍ كانت القيادات الدينية تتصدّى للأمر، وتهدّد بالويل والثبور، وينطلق العزف على الوتر المذهبي والتعرّض لحقوق هذه الطائفة أو تلك، متسلّحين زورا بالدستور الذي يكفل حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية لجميع الطوائف، ولكنه لا يتكلم عن حق الطوائف في فرض قانون مذهبي خاص، ولا يعطيها حق التفرّد والحصرية. وكان رؤساء الطوائف يتوزّعون الأدوار فيما بينهم، فاذا تصدّت السلطات الإسلامية السنية للمشروع، تحافظ السلطات الروحية الأخرى على موقف وسطي مهادن، كي يتسنّى لها لعب دورالوسيط، والعكس صحيح. وبعد انتهاء الحرب الأهلية، والتوقيع على "اتفاق الطائف"، بادر رئيس الجمهورية الأسبق، إلياس الهراوي عام 1998، إلى طرح مشروع الزواج المدني اعتقادا منه أن من شأنه تخفيف الاحتقان الطائفي ورواسب الحرب، وتمكّن من إقناع أكثرية الوزراء من التصويت لصالح المشروع، إلا أن رئيس الحكومة آنذاك، رفيق الحريري، اضطر لاستعمال صلاحياته في وضع اعتراضه (الفيتو) على المشروع، بعد أن شن مفتي الجمهورية حملة على الخطوة. وتبعتها محاولاتٌ لاحقةٌ تصدّت لها قيادات روحية شيعية ثم مسيحية، ووقع ضحية واحدة منها الحريري الابن، عندما طُرح المشروع مجدّدا عام 2013، وأعلن هو تأييده له ورفضه تكفير الناس، فقامت قائمة مفتي الجمهورية الأسبق، إلى درجة أنه نزل إلى الشارع يحرّض الناس على التظاهر، علما أن ما يطرح باستمرار، ومنذ عام 1952، بأول مبادرة من ريمون إدّه، هو مشروع زواج مدني اختياري، وليس إلزاميا، يبقي على دور المحاكم الدينية وصلاحياتها.
غير أن ما حصل هذه الأيام كشف عن مدلولات، ودلل إلى مؤشراتٍ أقل ما يقال فيها إنها صادمة ومفاجئة. صحيح أن دار الفتوى أصدرت بيانا حازما ترفض فيه "رفضا قاطعا الزواج المدني، لأنه يشكل خروجا على الشريعة الإسلامية ومخالف للدستور"، وهذا موقفٌ مفهوم، ولكنه صدر بعد عدة أيام على إطلاق الوزيرة ريا الحسن مبادرتها. وهي سيدة تكنوقراط كفوءة من الطائفة السنية، وتنتمي إلى تيار المستقبل، وسبق أن أسندت إليها حقيبة وزارة المال في أول حكومة للحريري عام 2010، إلا أن ردة فعل بعض الأوساط السنية جاءت فورية وسريعة، سبقت موقف المفتي ودار الإفتاء وكانت أقسى بكثير، وهجوميةً وواسعةً، شملت قطاعات شعبية ووسطى، في بيروت والمدن خصوصا في طرابلس. واتخذت معارضتها طابعا طائفيا محافظا ومتزمتا، لا يتردد في تكفير من يؤيد الخطوة، على الرغم من أن هذه الشرائح هي من أكثر المتحمسين لنهج الحريري السياسي. وعلى الرغم من مسارعة رئيس الحكومة إلى تدارك الأمر، معلنا تأييده خطوة الوزيرة، ورافضا التكفير، كشفت ردود الفعل أن حالة غير صحيةٍ تعشعش في بعض هذه الأوساط ساهم في تظهيرها أكثر عدم مبادرة قيادات الطوائف الأخرى إلى إعلان موقفها من المبادرة. وقد عنونت إحدى الصحف التي تصدر في عاصمة الشمال، واصفة خطوة الوزيرة التي تنتمي إلى طرابلس، ب"اقتراحات قوانين تهدم الأسرة والقيم تدريجيا باسم حقوق الإنسان"، فيما حاول أحد أقطاب "تيار المستقبل" الذي ينتمي هو أيضا إلى المدينة التخفيف من وطأة الحملة، داعيا إلى "احترام خصائص المحاكم الشرعية". من هنا، يفهم تعليق جنبلاط الحذر، والمستاء في الوقت نفسه، عندما أراد أن يدلي بدلوه معلنا تأييده، وهو الدرزي وزعيم الحزب التقدّمي الاشتراكي، اقتراح الزواج المدني، ومحذّرا من استخدام الدين وتكفير الناس.
أوحت ردة الفعل العنيفة وكأن هناك خلطا ببن الديني - الاجتماعي والسياسي، وإن رفض 
مبادرة الزواج المدني هي، في العمق، تعبير عن رفض الطبقة السياسية والحالة الاقتصادية والاجتماعية المتردّية، والتي تطاول شرائح شعبية، ومنها من هو تحت خط الفقر. كما أنها، بحسب بعض الباحثين من علماء الاجتماع، تخفي، في طياتها، نقمة وغضبا بطابع مزدوج طائفي وسياسي تجاه ما بات يطلق عليه كثيرون "الحزب القائد" للطائفة الشيعية وللحكومة، أي حزب الله الذي يلقى معارضة شديدة في الشمال اللبناني، والذي تحاشى التعليق على اقتراح الزواج المدني، على الرغم من تشدّده في الأمور الدينية والشرعية وتزمت قواعده.
ويبقى سؤال مهم عمّا إذا كانت خطوة الوزيرة "المستقبلية" تهدف أيضا إلى تخفيف الضغط والنقمة على الحكومة، وإلهاء الرأي العام بمسألةٍ لها بطبيعة الحال مؤيدون كثيرون في المجتمع المدني، كما لها أيضا معارضون كثيرون في أوساط محافظة ونافذة، ضمن الطبقة السياسية والسلطات الدينية، التي لن تتخلى بسهولةٍ عن امتيازاتها، وما تجنيه من مداخيل من عمل المحاكم الشرعية، وكذلك استمرار ربط الأحوال الشخصية ومعاملات الزواج والطلاق والإرث بها.

دلالات

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.