الربيع العربي والمستلزم الديمقراطي

الربيع العربي والمستلزم الديمقراطي

07 يونيو 2014

أعلام تونس ومصر وليبيا

+ الخط -
دأبت القوى الغربية على الإطناب في الحديث عن الديموقراطية، لتبرير بعض سياساتها حيال المنطقة العربية. ولغياب أي تجربة ديموقراطية في العالم العربي، استعصى دحض المزاعم الغربية بأمثلة من الواقع، حتى جاءت أحداث الربيع العربي التي أتت على أطروحتي "الاستثناء العربي" في مجال الديموقراطية و"العنف" (بمعنى عجز العرب عن التغيير سلمياً)، فقد اندلعت انتفاضات عربية تواقة إلى الديموقراطية، تميّزت إحداها (التونسية) بالعمل السلمي، بعيداً عن العنف، وهذا دلالة على نقلة نوعية في السياسة العربية المعاصرة، ومؤشر على تغيّرٍ قادم في العلاقة بين العرب والغرب.
ستقود الديموقراطية العربية الحقة (وليس ديموقراطية الواجهة) حتماً إلى صوغ العلاقة مع القوى الغربية على أساس المصالح المتبادلة واستقلالية القرار الإستراتيجي، لأن الشرعية السياسية المنبثقة من الانتخابات ستُجبر الحكومات العربية على وضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. وإن هي قصّرت، فستُعاقب انتخابياً. ولهذا التطور انعكاسات إقليمية ودولية.
اعتادت القوى الغربية التأكيد على أن إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة (إلى جانب تركيا)، وهذا صحيح، بغض النظر عن موقف العرب من إسرائيل وسياساتها. لكن، لا يمكن للحجة الديموقراطية أن تكون مبرراً لاحتلال أراضي الغير. إنها الخطيئة الاستراتيجية الأولى للقوى الغربية (صرف النظر عن واقع الاحتلال)، أما خطيئتها الاستراتيجية الثانية، فتكمن في دعم إسرائيل على حساب الفلسطينيين، والقول في الوقت نفسه بتحفيز وتشجيع الديموقراطية. لكن، تجري الرياح السياسية العربية، بما لا تشتهي السفن الاستراتيجية الغربية، ذلك أن الربيع العربي، على الرغم من تعثراته، تسبب في تآكل الحجة الأولى، ويضع الثانية أمام امتحان عسير. فالقوى الغربية، اليوم، أمام ظهور مستلزم ديموقراطي قادم من الديار العربية، التي ظلت عقوداً موضوع المستلزم الديموقراطي الغربي الانتقائي. ومن ثم، يضع الربيع العربي، وتحديداً في نسخته التونسية، القوى الغربية في مأزق سياسي، لم تكن تتوقعه، فعليها أن تثبت صحة قانون دويل: "الديموقراطيات لا تدخل في حروب في ما بينها" بتطبيقه على المنطقة.
ومن ثم، فإن أحد الانعكاسات الاستراتيجية للربيع العربي، في نسخته المتقدمة وليس المتعثرة، تكمن في إعادة صوغ العلاقة مع القوى الغربية، على أساس المستلزم الديموقراطي. وستزيد دمقطرة دول عربية من حدة التوتر الأخلاقي بين المستلزمين الديموقراطيين الغربي والعربي، ذلك أن حكومات عربية منتخبة ديموقراطياً سيكون موقفها التفاوضي أحسن، لمطالبة نظيراتها الغربية بتسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي تحديداً، باسم الحرية التي هي قوام الديموقراطية. يضع هذا التحول في السياسة الإقليمية سياسة الكيل بالمكيالين الغربية على المحك، ذلك أن المستلزم الأخلاقي العربي، قيد النشأة، سيزيد من اللعبة التقليدية للقوى الغربية في المنطقة تعقيداً، بوضعها أمام حقيقةٍ يصعب التنصل منها: إذا كان نطاق المستلزم الأخلاقي كونياً، فلا يمكن أن يكون تطبيقه انتقائياً.
لكن هذه الآفاق الممكنة غير مرجحة، على الأقل على المدى القريب، إن لم نقل المتوسط، لأن القوى المناوئة لمثل هذا المشهد الديموقراطي كثيرة، عربياً وإقليمياً ودولياً. فعلى الصعيد العربي، هناك قوى مضادة تعمل، سراً وعلناً، لإجهاض الربيع العربي، عبر الردة الانتقالية (مصر) أو عبر الحرب الأهلية ودولة الميليشيات (سورية وليبيا)، أو بتقزيم التغيير بجعله مجرد تغيّر في النظام (اليمن). فضلاً عن أن الدول التسلطية تمثل الأغلبية الساحقة، وهذا متغيّر يكفي، وحده، لإجهاض التحول الديموقراطي عربياً، نظراً لهاجس سقوط الأنظمة القائمة.
 
إقليمياً، لا مصلحة لإسرائيل استراتيجياً في ظهور ديموقراطيات عربية، لأن ذلك سيحرمها من الحجة الديموقراطية، المربحة سياسياً في علاقتها مع الغرب، ويضعها أمام خياراتٍ تسعى إلى تأجيلها لأجل غير مسمى. دولياً، سيجبر بروز دول عربية ديموقراطية، مستقلة القرار الاستراتيجي، القوى الغربية على مراجعة سياساتها التقليدية حيال المنطقة. وعليه، لا مصلحة لها في الراهن في ظهور دول ديموقراطية عربية، مستقلة في قرارها الاستراتيجي. وربما النموذج الأفضل بالنسبة للقوى الغربية هو دول عربية ديموقراطية، بما فيه الكفاية من منظور القيم الديموقراطية، حتى يخفف ذلك من حدة التناقض في المواقف الغربية، لكنها محدودة من حيث استقلالية القرار الاستراتيجي، بمعنى أن تبقى مرتبطة بالمصالح الغربية.
ونافلة القول إن الربيع العربي يتطور في بيئة معادية عربياً، إقليمياً ودولياً، وحتى الدول العربية التي تسانده انتقائياً، فهي إنما تفعل خدمة لمأرب مناقضة للديموقراطية. أما داخلياً، فوصول قوى محافظة إلى الحكم في انتخابات ديموقراطية، بعد الانتفاضات، أثار قلقاً تذرعت به الدولة العميقة (حالة مصر) المناوئة للتغيير أصلاً، لتنقلب على التجربة الفتية، بتواطؤ قوى عربية ودولية، فيما يتصلّب عود الميليشيات في ليبيا. ويتّسم المشهد الراهن بغلبة أنصار (أفول، أنظمة عربية، قوى إقليمية ودولية...) "الاستقرار" التسلطي على أنصار الاستقرار الديموقراطي في المنطقة العربية. ومن ثم، فنجاح الربيع العربي مرهون أيضاً بترجيح كفة الطرف الثاني.