الحكايات تحكي*

الحكايات تحكي*

10 مايو 2016
الفنان الفرنسي أوديلون رودون (Getty)
+ الخط -
لم يسعفني الحظّ كي أتعرف إلى شهرزاد شخصياً. ولم أتلقَ تعاليم فنّ السرد في قصور بغداد. المقاهي العتيقة في مونتيفيديو كانت جامعاتي. الحكواتيّون المجهولون هم الذين علّموني ما أعرفه الآن. خلال التعليم الرسمي القليل الذي تلقّيته، إذ ما تخطيتُ الأوّل الثانوي، كنت أسوأ طالب في مادة التاريخ. مع ذلك، اكتشفت في المقاهي إمكانيةَ أن يكون الماضي حاضراً، وإمكانيةَ أن تُحكَى الذكريات بطريقةٍ يصير معها الأمسُ إلى هذه الآونة.
كان أساتذتي أولئك الكذّابون الجديرون بالإعجاب، يجتمعون في المقاهي ليقبضوا على الوقت المفقود.

في حلقات الأصدقاء التي درجتُ على الانضمام إليها، سمعت واحدة من أفضل الحكايات التي صادفتُها في حياتي. أحداثها تدور في أوائل القرن العشرين، زمن الحرب التي نشبت بين الفرسان الرُّعاة في مروج الأورغواي. كان الرّاوي يسرد الحكاية بأسلوبٍ شديد التشويق يأخذنا جميعاً إلى كل مكانٍ يقول الراوي إنه كان موجوداً فيه.

كان قد اجتاز، بعد انتهاء معركةٍ، ميداناً تبعثر فيه الموتى.
كان راقداً بين الموتى فتىً وسيمٌ للغاية، كان ملاكاً أو على الأقل بدا مثل ملاك.
كان جبينه معصوباً بشريط أبيض، مخضّب بالدماء.
على الشريط كُتبت عبارة: في سبيل الوطن وفي سبيلها هي.
كانت الرصاصة قد اخترقت كلمة "هي".

                                        ***
في "أفواه الزمن"، رويت قصة جرت عام 1967 في ملعب كرة القدم الرئيسي في كولومبيا. لم يكن هناك على المدرجات متّسعٌ لدبّوس. كان الملعب يغلي. مباراة بين الفريقين المهيمنين في العاصمة بوغاتا: ميوناريوس وسانتافيه، ستحدّد من سيفوز بلقب بطولة الدوري.
سقط أومار ديفانّي، هدّاف نادي سانتافيه، على الأرض داخل منطقة الجزاء، وكان ذلك في آخر دقيقة من مباراة الكلاسيكو الرهيبة تلك؛ فأطلق الحكم صافرته محتسباً ركلة جزاء.
في الحقيقة، كان ديفانّي قد تعثّر لوحده: لم يعرقله أحد، بل لم يلمسه أحد مجرّد لمسة. لقد أخطأ الحكم، لكنه ما عاد قادراً على التراجع عن قراره أمام زمجرة ذلك الجمع الغفير الذي ملأ المدرّجات.
عندئذ، نفّذ ديفانّي ركلة الجزاء غير الصحيحة تلك. نفّذها بهدوء بالغ راكلاً الكرة بعيداً، بعيداً جداً عن مرمى الخصم.

                                          ***

افتتحتُ كتاب "ليالٍ ونهارات من الحب والحرب" بعبارة لكارل ماركس لطالما أعجبتني لما تشعُّ به من تفاؤل: "في التاريخ، مثلما في الطبيعة، التعفّنُ هو مختبر الحياة".

عند ترجمة الكتاب إلى الألمانية، سألني المترجم الذي كان مطلعاً على مؤلفات ماركس من ألفها إلى يائها، من أين اقتبستُ تلك العبارة، فهو لم يتذكّرها مطلقاً، كما لم يفلح في العثور عليها في أيّ من كتب ماركس.

لا بدّ من توضيح أنني واحد من الكتّاب الأحياء القلائل أصحاب أربعة إنجازات: قرأتُ الكتاب المقدّس كاملاً، قرأت "رأس المال" كاملاً؛ قطعت لوس أنجلوس من أوّلها إلى آخرها مشياً؛ وأيضاً قطعت مشياً مدينة مكسيكو. كنت أعتقد أنّ تلك العبارة مأخوذة من "رأس المال"، فبحثت عنها أيضاً، بحثتُ وبحثت، إلا أنني لم أعثر عليها. مع ذلك، كنت واثقاً من أن ذاكرتي لم تخن تلك الخلاصة المثالية في الفكر الجدليّ لدى المُلتحي الألماني العظيم، فأجبتُ المترجم:
- العبارة لماركس، لكنه نسي أن يكتبها.
                                         ***

كانت حفيدتي كَتالينا في العاشرة آنذاك، كنّا نمشي في أحد شوارع بوينُس آيرس، حين اقترب أحدهم وطلب منّي أن أوقّع له بإمضائي على كتاب من كتبي ما عدتُ أذكره.
ثم تابعنا مشينا، صامتَين، متضامّين، إلى أن أومأتْ كتالينا، ونطقت هذا التعليق المثير:
- لا أعرف في الحقيقة لِم كلّ هذا التعقيد، إذا كنتُ أنا لا أقرؤك.

                                            ***

ذات مرّة، قبل فترة، زرتُ مدرسة في مدينة سالتا شمال الأرجنتين، لأقرأ قصصاً على الأطفال. في نهاية الجلسة، طلبت المعلمة من التلاميذ أن يكتبوا لي رسائل يسجّلون فيها تعليقاتهم حول القراءة.
إحدى الرسائل نصحتني: تابِعِ الكتابة، فسوف تتحسّن.

                                           ***

الأوّل من أيّار هو اليوم الأكثر عالمية بين أيام السنة. فالعالم بأسره يتوقّف عن العمل، وفاءً لذكرى العمّال الذي أعدموا بالشنق في شيكاغو عقاباً على جريمة أنهم رفضوا العمل لأكثر من ثماني ساعات في اليوم.

تملّكتني الدهشة في رحلتي الأولى إلى الولايات المتحدة، إذ بدا الأول من أيّار يوماً كأيّ يوم آخر في السنة، وحتى لم يختلف الأمر في مدينة شيكاغو، المدينة التي شهدت وقوع التراجيديا. أوضحتُ في "كتاب المعانقات" أن هذا التغافل قد آلمني.

بعد ذلك بوقت طويل، تلقيتُ رسالة من شيكاغو بعثها إليّ ديانا بيريك وليو روزينباوم.
لم يسبقْ لهما الاحتفال بهذا اليوم قطّ، لكنهما في عام 2006، ولأول مرة، رِفقة جماهير لم يُشاهد مثلها من قبلُ، استطاعا إحياءَ ذكرى أولئك العمال الذين دفعوا ثمن شجاعتهم على حبال المشانق.
"شيكاغو تعانقك"، كانت تقول الرسالة.
                                          ***

وُلدت ثلاثيتي "ذاكرة النار" من قصيدةٍ لقسطنطين كفافيس. أثناء قراءتي شاعر الإسكندرية اليوناني العظيم، أحسستُ بأنني أواجه تحدياً: لِم لا أطلُّ على العالم من ثقب الباب؟ لِم لا أدوّن الماضي عبر سرد الحكايات العظيمة انطلاقاً من الحكايات الصغيرة؟ ففي قصيدة كفافيس، تُروى قصةُ انتصار مارك أنطونيو في اليونان كما يراها بائعٌ متجوّل فقير يحاول أن يبيع شيئاً وهو راكبٌ على ظهر حماره ولا أحد ينصت إليه.


* مقاطع مختارة
الترجمة عن الإسبانية: كاميران حاج محمود

إدواردو غاليانو (1940 - 2015)، كاتب وروائي وقاصّ أورغواياني.

دلالات

المساهمون