الحرب وحفرة العم فرحان

الحرب وحفرة العم فرحان

01 يوليو 2018
+ الخط -
ما زال ذلك المشهد ماثلاً أمام عيني بكل تفاصيله المؤلمة؛ شتاء عام 1991، الساعة السادسة صباحاً عندما هرعت والدتي إلينا وهي توقظنا نحن أطفالها بصوت بكائها ونفسها المنقطع وتقول: "صدام ضرب السعودية"..

استيقظنا جميعاً والتففنا حول جسد أمي النحيل وبدأنا نشاركها البكاء، في ذلك الوقت كان أبي يعمل في السعودية، لم أكن عندئذ قد تجاوزت السابعة من عمري وتصوري عن الحرب كان تصوراً طفولياً بدائياً، إذ كنت أتخيل أن السعودية هي عبارة عن حي صغير وأن الصاروخ قد قتل كل سكانها وبمن فيهم والدي.

في ذلك الوقت لم تكن هناك وسائل اتصال تمكننا من تقصي الأخبار غير إذاعتي بي بي سي ومونتكارلو؛ كان علينا أن ننتظر أي "مكتوب" قادم من والدي مع سيارات "الدوج" الصفراء، لكن المكتوب لم يأتِ حينها، بل عاد والدي بنفسه، ومع عودته بدأت أتعرف أكثر على تفاصيل الحرب، فقد كان أبي يجيد الوصف ونقل الأحداث، وأخذ يحدث رجال الحارة عن مشاهداته الحية وعما سمعه من الناس عن الغزو العراقي للكويت، وكان يمثل بحركات جسده ويقلد صوت الطائرات والانفجارات.


مع اشتداد وتيرة تلك الحرب، بدأت تسري إشاعات عن نية الجيش العراقي استخدام الأسلحة الكيميائية والذرية، وتملّكت الناس حالة من الترقب والذعر، فقد كان هناك ثمة اعتقاد سائد بأن الرياح القادمة من الشرق سوف تنقل الغازات إلينا، وخصوصاً بعدما شاهد الناس بعض الغيوم السوداء وقيل حينها إنها ناتجة عن الدخان المتصاعد نتيجة حرق آبار النفط الكويتية.

في ذلك الوقت المبكر من طفولتي بدأت تتقافز في رأسي عشرات الأسئلة عن الكلمات الغريبة التي كنت أسمعها من والدي وبالكاد أستطيع نطقها، ومن أمثلة هذه الكلمات هي الأسلحة الذرية، فقد كان من الصعب علي استيعاب كل هذه المفاهيم الجديدة عن الحرب ومصطلحاتها، وكان يجب أن أبحث عن أجوبة تطفئ حرارة دماغي الصغير وتشبع فضولي، وكان هذه متعسراً بعض الشيء كوني كنت طفلاً لا أميل إلى طرح الأسئلة الكثيرة على الكبار.

لكن مع بداية رحلتي البحثية تلك، ساق القدر إلي غلاماً اسمه يحيى، كان يحيى طفلاً يرعى الغنم في أرض بوار قريبة من بيتنا وكان يكبرني بخمس سنوات، حملت إليه أسئلتي التي دائماً ما كنت أجد لها أجوبة عنده؛ يحيى العارف بكل شيء، كان يمطرني بسيل من الخرافات والأساطير عن الحرب، جلها كانت من نسج الخيال، لكن دماغي كان أصغر من أن يقوم بمحاكمات عقلية للتأكد من تلك المعلومات، فقد حدثني يحيى يومها عن الأسلحة الذرية وكيفية استخدامها، وكان دائما ما يتركني في أوج انتباهي ليهش على غنمه، ثم يعود وقد اختمرت برأسه فكرة أشد رعباً من سابقتها. أذكر أنني سألته ذات مرة: "هل نستطيع الاختباء من الأسلحة الذرية"، وكان جوابه القاتل: "لن يكون بمقدورنا التحرك وسوف نموت على الفور"... لماذا يا يحيى؟

فكرة يحيى عن السلاح الذري كانت مزيجاً ما بين الواقع وأفلام الكرتون. حاول مرة تبسيطها لي باستخدام الشرح التصويري، فتناول عوداً وأخذ يخط به على الأرض رسماً لمنطاد حراري يحمل صاروخاً في الأسفل، لم تكن رسوماته تشرح المعنى أو ربما لم أكن على مستوى من الوعي لتفكيك شيفرتها، الحق أنه كان يحاول شرح رسوماته أيضاً لتبسيط الفكرة.. المهم عندي أن يحيى كان يملك المعرفة.

كيف ننجو!.. الحقيقة أن فكرة يحيى باستحالة النجاة من الحرب قد أخافتني وبدأت أقلبها برأسي وأحاول أن أبحث لها عن حلول بمخيلتي، ولا أذكر كيف قادني تساؤلي هذا إلى اكتشاف الإجابة العجيبة عند العم فرحان، وهو ابن عم والدي ويسكن في المنزل المجاور لنا. فكرة العم فرحان كان قد طبقها في حرب النكسة، وهي ببساطة ''الحفرة"، إذ يقال إنه قد حفر حفرة خلف منزله الذي كان عندئذ في القرية ليحتمي فيها في حال أغارت الطائرات الإسرائيلية عليها، ولعل فكرة "حفرة النكسة" لا تقل بساطة عما جاءت به تصوراتي، فقد كنت أفكر بحلول مشابهة أيضا، كآلة الزمن وبساط الريح والمارد، لكن الحفرة تبقى أكثر معقولية وملاءمة وهي الأنجع لنا كعرب، إذ يكفي أن نلبث في حفرنا يوما أو بعض يوم إلى أن يحدث الله أمراً.

رافقتني فكرة الحفرة طيلة حياتي وصرت أراها في صور الرئيس المعربدة على الجدران وفي شعارات الحزب والأغاني الحماسية، وبطاقات التموين ولباس الفتوة ونشرات الأخبار وهزائم العرب المتوالية، فلكل عربي منا حفرته في زمن الهزيمة.

أنا الآن وحيد وحفرتي هي عزلتي وكآبتي في بلاد المنفى حيث لا يأمن الغريب من الخوف ويموت المشتاق في حرقة الحنين، بينما ترك يحيى الرعي والمدرسة والتحليل العسكري ليسافر للعمل في بيروت ويقبع في حفرة يطلق عليها جزافاً اسم "الورشة"، أما العم فرحان فتوفي وحيداً في منزله قبل اندلاع الحرب في سورية وقبل أن يضطر لحفر حفرة أخرى تحميه هذه المرة من طائرات الوطن.. خسرنا الجولان والضفة وسيناء، وسقطت بغداد واشتعلت ليبيا واليمن.. حفرنا اليوم هي كبيرة بحجم الأوطان؛ سقطنا فيها جميعاً.

دلالات

A4015EDB-70FC-48A5-ACE0-A9AAC2A1FB48
محمد عاصي
أحمل الإجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها من جامعة دمشق وأعمل حاليا كمدرس للغة العربية في لندن.

مدونات أخرى