الحبّ المبتور..."اسمعي" للّبناني فيليب عرقتنجي في الصالات المحلية

الحبّ المبتور..."اسمعي" للّبناني فيليب عرقتنجي في الصالات المحلية

29 يناير 2017
هادي بوعياش ولمى لاوند وربى زعرور في "اسمعي"(العربي الجديد)
+ الخط -

يرتكز "اسمعي" (2016)، الروائي الطويل الجديد للّبناني فيليب عرقتنجي (بيروت، 1964)، على قصة حبّ شفّافة وواقعية وحيّة، بين شابين في مقتبل العمر. ففي مقاربته أحوال شابين يُغرمان أحدهما بالآخر، يتابع وقائع متنوّعة في سيرتهما الشخصية، المُصابة بتحوّل خطر، يواجههما ذات لحظة غير متوقّعة، فيكتمل الحبّ بينهما، وإنْ بابتعاد جسدي، واقترابٍ معنويّ وروحيّ وانفعاليّ.


قصة حبّ يُقدّمها مخرج لبناني، لديه مكانته الخاصة في الاشتغال الوثائقي أولاً، وفي التنويع البصريّ الفني في أعمالٍ دعائية وإعلانية وترويجية ثانياً، وفي نمط روائيّ ثالثاً، يأخذه إلى نبض بلده وناس البلد، وحكايات بلده وناس البلد في وقت واحد. فمنذ "بوسطة" (2005)، الذي يروي سيرة شبابٍ لبنانيين مولعين بالرقص الشعبي المحليّ، ويقومون برحلة جغرافية وإنسانية وروحية في ربوع بلدهم، عبر إيقاعات مختلفة لرقصة الدبكة؛ إلى "تحت القصف" (2007)، المتوغّل في حساسية الشارع اللبناني، بُعيد اندلاع "حرب يوليو/ تموز" الإسرائيلية ضد لبنان واللبنانيين (2006)، يرسم عرقتنجي ملامح سيرة شخصية وسينمائيّة، بلغته الخاصة، وأسلوبه الذي يمزج حسّاً فنياً ببُعدٍ تجاري.


وإذْ يُقدِّم حكاية جذوره العائلية التاريخية، برغبةٍ في تبيان سيرة مليئة بهويات وجنسيات وثقافات وأساليب عيش وهجرات وأسفار، في "ميراث" (2014)؛ فإنه، في "اسمعي"، يبدو كمن يريد سفراً من نوعٍ آخر، له علاقة بحبّ يكاد يُصبح نادر الوجود، في بلدٍ يتخبّط بانكسارات وخيبات، ويعجز عن سماع صوته الداخلي، وينفضّ عن ذاته أمام مرايا روحه.




فسماع الصوت أساسيّ في لعبة سينمائية، يقترحها فيليب عرقتنجي في "اسمعي"، لأن الصوت مهنة الشاب، وأداة تواصل بين العاشقين، ووسيلة تعرّف على الذات والآخر والبلد. جود (هادي بو عيّاش) مهندس صوت في أفلام سينمائية وأعمال دعائية وإعلانية، يهتمّ بمهنته إلى حدّ الهوس، لاقتناعه بأن الصوت أهمّ فعلٍ "يرتكبه" المرء في علاقاته المختلفة، واصفاً إياه (ولو ضمنياً) بـ "الدليل" إلى اكتشاف خفايا وأصداء نفوسٍ وعقولٍ وأرواحٍ وأزقّة وفضاءات. وهو، إذْ يمارس مهنته هذه بحرفية شابٍ يسعى إلى مزيدٍ من الاختبار والمعرفة، يجد فيها ملاذاً يقيه ارتباك المدينة وضجيجها، ويحصّنه في حبّه الصافي لشابّة ممثّلة، تعيش قلقاً مدوّياً في كنف عائلتها الميسورة.


والحبيبة رنا (ربى زعرور) ترى في جود أصفى كيانٍ إنساني وبشري يمكن الركون إليه، كترجمةٍ حسية لمشاعر وانفعالات، وكخلاصٍ من قسوةٍ وضغطٍ وحصارٍ، مفروضة كلّها عليها، بسبب نمط عائلي، منتمٍ إلى بورجوازية تمتلك خصائصها وقواعدها ومفرداتها في عيش يومياتها، وصناعة علاقاتها. ورغم أن جود يُقيم في منزلٍ يقع على سطح مبنى صناعي، ويكافح من أجل عيشٍ يريده ويليق به، ويمتلك سيارة فقيرة، إلّا أن رنا ترى فيه حبّاً صافياً، وشوقاً إلى عيش حرية مفقودة، ورغبةً في اختبار أنماطٍ عديدة من يوميات الحياة.


لن تكون العلاقة بينهما انعكاساً لتحليلٍ سوسيولوجي، مرتبط بمواجهة حتمية بين طبقتين اجتماعيتين متناقضتين. فالحبّ أقوى من أن يُختزل في صراعٍ طبقي، وإنْ يُشكّل الحادث غير المتوقّع ـ الذي تتعرّض له رنا، فتُصاب بغيبوبة ـ لحظة انكشافٍ بين أبٍ (جوزف بو نصّار) غير راضٍ على علاقة كهذه، فيستغلّ الحادث والغيبوبة، كي يُبعد جود عن عائلته وعالمه وكينونته وابنته؛ في حين أن والدة رنا (لمى لاوند) تُقيم في صدمة الخراب الذي يحيطها فجأة.


ومع أن جود مقتنعٌ بقدرة الأصوات والتسجيلات على اختراق الغيبوبة إلى الوعي المبطّن لرنا، وعلى مساعدتها على العودة إليه، إلاّ أن انسداد الأفق الجغرافي بينهما ـ وإنْ يعجز عن الحؤول دون لقاء غير مباشر، ولو لوقتٍ قصير ـ يُبعد أحدهما عن الآخر، ويبدو كأنه يضع حدّاً أخيراً لعلاقة حبّ رائعةٍ بينهما.


مع هذا، يُشكّل الحبّ، بينهما، مشتركاً لا يُقهر. والتسجيلات ـ إذْ تصل رنا بفضل شقيقتها مروى (يارا بو نصّار)، غير المقتنعة كلّياً بجدواها ـ تُشكّل تواصلاً خفياً بين الحبيبين، قبل أن تقف الممرضة (جوزيان بولس) حائلاً دون استكماله، خوفاً على مصلحتها في العمل مع العائلة، علماً أنها، هي أيضاً، غير مقتنعة بأي فائدة تُذكر من سماع أصواتٍ وتسجيلاتٍ لنبض الحياة اليومية.


وإذْ يُشكّل الحبّ أفضل ما في السرد السينمائيّ للحبكة، فإن تورّط النصّ الحكائيّ في عناوين كثيرة أخرى، يجعل "اسمعي" موزّعاً على أفكارٍ ومواقف وانفعالاتٍ، كل عنوانٍ منها يحتاج إلى فيلمٍ أو أكثر. كلامٌ كثير يُقال عن صراعٍ/ فرقٍ ثقافي حضاري بين شرقٍ وغرب، وموقع المرأة في الاجتماع اللبناني، والعنف ضدها، وحقوقها الاجتماعية والزوجية والانفعالية، وغيرها، تمرّ بشكل مصطنع وعام وخطابيّ ومباشر، يُسيء إلى النص وحبكته، وإلى قصّة الحب الشفاف وتبدّلات الحبّ ومساراته، وإلى جمالية العلاقة المتواضعة بين شابين، يريدان عيشاً هانئاً في بؤر حياتية متوترة وغير سوية، لكن الحياة تُريد لهما نقيض ما يطمحان إليه.


وفي مقابل جمالٍ، موزّع على الشكل والنُطق والملامح والحركة والانفعال والتعبير، الذي تمتّع به ربى زعرور في تأديتها شخصية رنا؛ يظهر هادي بو عيّاش أضعف من أن يبلغ مستوى أرقى في علاقة جود برنا، الشابّة المتوقّدة ذكاءً وحيوية ورغبة عارمة في العيش، هو الغارق في جمودٍ وتصنّعِ انفعالٍ، وفي غيابٍ مطلق لأي شعورٍ أو أداء يليق بشخصية لديها حساسية مرهفة وجميلة تجاه الأصوات، وتواجه انقلاباً جذرياً في حياتها، فإذا بالممثل يعجز عن مواكبة الشخصية في تحوّلاتها تلك.

المساهمون