عن سينما لبنانية تجارية مقبولة

عن سينما لبنانية تجارية مقبولة

16 يناير 2017
دارين حمزة في "ورقة بيضا" لهنري بارجيس (العربي الجديد)
+ الخط -
يُشكِّل "ورقة بيضا"، لهنري بارجيس، نموذجاً لفيلم سينمائي تجاري لبناني مقبول، رغم بعض الهنات التي تشوب النصّ الدرامي، والتقنيات المتعلّقة بالمؤثّرات البصرية، وبعض الحوارات، خصوصاً على مستوى كيفية نُطق بعضها. ففي ظلّ انعدام المقوّمات الأساسية لصناعة سينمائية متكاملة في لبنان؛ وفي مقابل اتّساع المساحة الإنتاجية أمام نوعين اثنين، يتناقضان في كل شيء، ويتوزّعان على الاستهلاكي المُسطّح والباهت من جهة أولى، وعلى النخبوي ـ الساعي إلى إشاعة صورة سينمائية متينة الصُنعة الإبداعية والجمالية والفنية ـ من جهة ثانية؛ يأتي "ورقة بيضا" ليطرح سؤال المواءمة الممكنة بين بُعدٍ تجاريّ وصورة سينمائية (وإنْ تحتاج إلى بعض التشذيب)، في تحقيق فيلم يروي حكايات أشخاصٍ عديدين، في بيئات اجتماعية لبنانية مختلفة، يلتقون في عالم القمار، وما يحيط به من أحوالٍ ومتاهات وصدامات. 

لن يكون "ورقة بيضا" نموذجاً "مثاليّاً" لهذا النوع الثالث ـ المطلوب والمقبول، في مقابل النوعين الاستهلاكيّ المُسطّح والنخبوي العاجز عن تواصل سليم مع شريحةٍ كبيرة من المُشاهدين ـ في صناعة الأفلام اللبنانية. فالهنات فيه تحول دون بلوغه هذه المرتبة، لكنها لن تمنع ظهور مقوّمات بصرية أساسية تصبو إليها، ويُمكن الاعتماد عليها في قراءة نقدية، تتناول متنه الدرامي، وبناءه الفني، ونصّه السينمائي (السيناريو والحوار)، وكيفية تركيب شخصياته.

وإذْ يتمتّع التصوير (باسكال ريادو) بجمالية فنية، تنطلق من مفردات التشويق والحركة في السينما الأميركية، فإن التوليف (هنري بارجيس وماريا زكا) يربط اللقطات والمشاهد في سياق سلسٍ، يكتفي بحرفية المهنة، ويبتعد عن تحليل الشخصيات، وإطلاق الأحكام المسبقة على مسالكها وأهوائها وتصرّفاتها وأساليب كلامها ومضامينه، لأنه يرغب في متابعة وقائع عيشها، وإنْ يُمرِّر، بين الفينة والأخرى، معالم من يومياتها، وشيئاً من ماضيها، كي تكتمل صُوَرها الإنسانية.

وهذا كلّه يُصاب بعطبٍ تقني، يتمثّل بخللٍ واضح في تنفيذ المؤثّرات البصرية، في مقابل تصوير/ توليف متماسكين وفنيّين في لقطات أخرى (ركوب الدراجة النارية مثلاً، واللقطات القريبة لملامح بشرية غائمة في ملذّاتها المسحوقة، وذكرياتها الثقيلة، إلخ...)، بالإضافة إلى سلاسة حوارات عديدة، رغم أن نُطق بعضها مبالغٌ فيه، ولهجة بعضها الآخر مباشرة وغير واقعيّة، إذْ يغلب التفسير على هذا البعض، ما يُشوّه نضارته الواقعية، ويُناقض ـ إلى حدّ ما ـ واقعيّة عالم القمار، خصوصاً بالنسبة إلى أبناء الطبقة الثرية، وإنْ كانت الطبقة منتمية إلى ما يُعرف بـ "أثرياء الحرب" (ولأبنائها لغة تمزج بين سوقية مخفَّفة وادّعاء معرفة بنقيضها)، أو إلى برجوازية ثرية رأسمالية، تجد في القمار متعة أو هروباً أو تعويضاً عن نقصٍ.

لعلّ أبرز إيجابيات "ورقة بيضا" تكمن في ابتعاد النصّ عن كل تحليل نفسي ـ اجتماعي. فالتعاطي مع الشخصيات متأتٍ من رغبتها في المشاركة الدائمة في ألعاب القمار، في أطر ضيّقة، بعيداً عن أمكنة عامة (الكازينو). شخصيات لن يكون سهلاً إخفاء تمزّقاتٍ تعانيها، لكن البوح بالتمزّقات متلائمٌ وسلاسة السرد وبساطته وشفافيته وواقعيّته، إلى حدّ كبير. ذلك أن لانا (دارين حمزة) غير قادرة على الاستمرار في علاقة زوجية ـ عائلية تشعر أنها معطّلة، رغم حبّها الكبير لابنها الوحيد. وجيني (ألكسندرا قهوجي) وحيدةٌ وتائهةٌ وسط خيبات حبّ معلَّق، وعلاقات عابرة، وإسرافٍ في تعاطي المخدّرات. أما الريّس (غبريال يمين)، المُشرف على تنظيم "طاولات قمار" خارج معقله الأساسي (مقرّ كبيرٌ في حيّز جغرافيّ معزول)، يعاني أزمة زواجه من امرأتين متخاصمتين دائماً، ويبحث عن قاتل أخيه، ولن يتردّد تعذيب كلّ من يقف بوجهه أو يحتال عليه، أو قتله أو إهانته الجسدية أو المعنوية.

بالإضافة إلى هؤلاء الثلاثة ـ الأساسيّون في البناء الدرامي للحبكة، المعقودة على سرد يوميات لعبة القمار، والعلاقات العائلية المبتورة، والصداقات الثابتة، وتعاطي الخمور والمخدّرات والجنس، بالإضافة إلى اشتغال خاصّ بعالم العصابات ـ هناك أفرادٌ يدورون حوله، أو يُكملون مسالكهم في حياتهم الليلية والنهارية على حدّ سواء. أفرادٌ يبقون صدى بصريّا لعوالم تدور مع الثلاثيّ وحوله وله، أو يُصرّفون أعمالاً قذرة، أو يعكسون شيئاً من المخفيّ هنا وهناك.

وإذْ يظهر بديع أبو شقرا في لقطات عابرة، يقول فيها شيئاً من ميزات لاعبي القمار وتصنيفاتهم الموضوعة لهم وفقاً لأساليب لعبهم، أو لخلفياتهم الاجتماعية والمهنية والنفسية؛ فإن حسّان مراد ـ مُساعد الريّس وصديقه ومدير أعماله ـ يحتلّ مساحة بصرية أوسع، كونه المراقب والمُشرف والمهتمّ بتحقيق أمنيات الريّس في المهنة.

والفيلم يبقى أميناً لفكرة أساسية: اكتفاء بسرد حكايات أناسٍ يواجهون تحدّيات شتّى، أكانوا مقيمين في هذه البقعة الجغرافية أو تلك، أو إنْ كانوا منتمين إلى هذه الطبقة الاجتماعية أو تلك. فـ "ورقة بيضا" واضحٌ في كون أحداثه تجري في لبنان، بين بيروت بمناطقها المختلفة، والجنوب. في حين أن عالم القمار يتشابه في بقاع العالم، وما يدور فيه أو حوله أو بسببه محافَظٌ عليه في الفيلم اللبناني، إلى حدّ ما.




دلالات

المساهمون