الحاج محمد الحسن

الحاج محمد الحسن

07 مارس 2019
+ الخط -
كانت طباع الحاج محمد الحسن، فيها من الحكمة والمودّة العميقة المتبادلة، والعقل الراجح والطيبة ودماثة الخُلق والرقّةِ الشيء الكثير، وقليل ما هو عكس ذلك تماماً، ولا سيما أن صديقنا عبد الرؤوف ابنه البكر، فيه هو الآخر من صفات النبل ما يكفي.

عبد الرؤوف شاب عصامي طيّب المعشر، مُحب للآخر، وفوق هذا وذاك فإنَّ أكثر ما يغلب على نزعته الإنسانية التسامح، وسهولة اندماجه مع المجتمع، وحبّه المفرط لعمله الذي يشغل وقته فيه ليل نهار، وطوال أيام الأسبوع، وبحبٍ جارف.

حاول عبد الرؤوف أن يوافق على مواعيد سبق أن أدرجها في سلم أولوياته، ولأوّل مرّة، تحسباً لأي خلاف قائم قد يُعطب ما قام بالعمل به، وحاول مرات عديدة أن يفرمل طريق العودة إلى أسفاره المتعددة خارج بلده التي كانت تؤنس وحدته ومكانته بين أهله وزملائه، ورفاق صباه.

أما بركات، الأخ غير الشقيق لعبد الرؤوف، فقد حاول جاهداً إيجاد العمل المناسب الذي يليق به، ويقوم على خدمته طوال فترة الثماني ساعات في اليوم، التي يمكنها أن تفتح أمامه آفاق المستقبل المشرق في ظل محطّات حياة صار ميؤوساً منها، ومن هنا، كانت انطلاقته نحو تحديد أهداف كثيرة، مخلياً طريق العودة، وفاتحاً آفاقاً أكثر اتساعاً مع ما يمكن أن يحول بينه وبين عبد الرؤوف الذي عاش طفولته وبعضاً من صباه وشبابه، في ربوع قرية ريفية شبه حضرية، متطرفة عن مركز المدينة.


وكان الحاج محمد الحسن، يتحلّى بصفات حسنة وأخلاق كريمة، ونفس طيّب، ويعدّ الساعد الأيمن والمعين الأساس له ابنه عبد الرؤوف، الذي يَودّه جداً ويخلص له، وطالما وفّر له الراحة التامّة، وقام على خدمته وتأمين متطلباته اليومية، والاهتمام به الاهتمام المطلق.

إنَّ الحاج محمد كثيراً ما كان يسعى جاهداً للاهتمام بابنه، ويقرّبه إليه عوضاً عن أبنائه وبناته، الذين يعلنونها صراحةً، أنَّ والدهم لم يكن يهتمّ بهم يوماً كما هو حال اهتمامه بعبد الرؤوف الذي يفرحُ أشدَّ الفرح لمجرد رؤيته وزيارته لبيته، أو في حال أنه قام هو بزيارة ابنه واللقاء بأسرته التي يكنّ لها حُباً متراكباً كسنابل القمح، ويُسعد بها، وكثيرة هي المواقف التي تجعل من الحاج محمد ذي الأخلاق الطيّبة، أن يكون قريباً، وبصورةٍ دائمة من ابنه، وتكرار زياراته لمنزله، واللقاء به.

فرحه هذا لم يعفه من أن يُواظب على زيارة بيت ابنه، والجلوس ساعات طويلة مع أولاده وبناته الصغار الذين يحبونه حبّاً جمّاً، ويُدهشون بوجوده بينهم، فضلاً عن أنهم يجلّونه كَجدٍ قنوع ومحبّب إليهم، ويرجونه إطالة ساعات البقاء معهم حتى يشبعوا من رؤيته، ويستمتعوا بأحاديثه الطيّبة، وملاحظاته القيّمة، ونظراته الثاقبة، علاوةً على نبرة صوته التي يُفهم من خلالها مدى المكانة التي يتصفُ بها، واسمه الكبير، ويحترم من الأصدقاء والجوار الذين يفرحون لمجرد رؤيته والسلام عليه في ناصية الشارع، وهو في طريقه إلى منزل ابنه الذي يُستقبل بقلبٍ مُحب.

صار الحاج محمد الحسن بعرفِ الجميع، بمثابة القدوة الحسنة لكل من عرفه وسمع به، لما يتمتع به من بذور حسنة، وشخصية متزنة، وبروز ملامحه البريئة، وارتدائه الزيّ العربي الذي يليقُ به، كل هذا ترك انطباعاً غير عادي بالنسبة للأصدقاء والمعارف والأقارب الذين يعرفونه.

إنه إنسان كبير بتواضعه الجمّ، وبسيط بأخلاقه العالية، وبروز شخصيته وأنفته وورعه، كل هذا ترك رصيداً غير عادي لدى عموم الناس الذين عرفوه عن قرب، وهذا ما لفت إليه أنظار الجميع في الحي الذي يقيم فيه.

وكان من طباعه مشاركاته الوجدانية المكثفة مع عامّة الناس، وفي يوم ترك صاحبنا نَدبة تجلّت في غيابه في إحدى المرات نتيجة وعكة صحّية ألمّت به، استمرت أياماً!

وكان للحاج محمد مواقفه المشرّفة في كثير منها ما كان يُحبّب الناس فيه، ويتجلّى ذلك في حسن تصرفاته واحترامه لهم، وتقديم يد العون للمحتاجين منهم، رغم عمله التجاري المتواضع الذي بالكاد يدرّ عليه دخلاً يساعده في تأمين لقمة معيشة أسرته وأولاده الذين يتجاوز عددهم التسعة عشر شاباً وشابة، أغلبهم في ريعان الشباب، ناهيك عن زوجتيه، وكلهم يعيشون في ظلّه، وتحت رعايته واهتمامه، وهو الوحيد الذي يقوم على تأمين حاجاتهم من مأكل وملبس، ولم يكن في يوم ما ينتظر مساعدة أحد من أبنائه على الرغم من أن البعض منهم سلك باتجاه العمل الحكومي، ويدخله بعض المال يكفي حاجته، وكان يرفض تماماً أخذ أي هدية رمزية تقدم له من أبنائه، أو مساعدة مالية تخفّف عنه العبء في دفع ما يُطلب منه في تأمين لوازم البيت الكبير مع أوّل كل شهر.

الحاج محمد الحسن، مثال راق في كافة جوانب الحياة، ومشاركاته الفعّالة في مآتم العزاء التي تقام سواء لجهة معارفه وأصدقائه، أو أقاربه وجيرانه، تلفت إليه الحاضرين ويتسيّدهم بقامته الفارعة المحببة، وهذا كلّه بسبب وجاهته ومعرفته ووعيه، وإدراكه للكثير من المفاهيم التي تُدار في مثل هذه الجلسات المَهيبة التي تتطرق إلى كل ما يخطر على بال، أضف إلى وقوفه على حل معظم المشكلات والخلافات التي تحدث ضمن عشيرته، وفي مدينته.

أصبح الحاج محمد ذائع الصيت، وأخذ يوليه الكثيرون، وكل من سبق أن عرفه، أهميةً كبيرةً لمكانته الاجتماعية بين الناس، وقدرته على حل المعضلات التي كان يستوجب الوقوف عليها ويجد لها الحل الذي يناسب المشتكين، ومن كلا الطرفين.

رجل هُمام، ذو مكانة مرموقة، وحاضر في وجوده. فهو إذا تكلم أسمع، وإذا حَكَم بين الناس أقنع، وإذا امتنع عن الحديث أطنَب الناس عن حضور الجلسات التي تظلّ لها خصوصية مطلقة بقامته المهيبة، لشغفهم به وحُبّهم له، وهم يبحثون عمن يدفع فيهم الكلام الطيّب، ويحثّهم الإصغاء على سماع حديثه المشوّق، ورأيه الصائب الذي يعترفُ له به العارفون، الذين يقضون في مشكلات يلزمها رجل صاحب رأي وأخلاق عالية، وحَسَنُ التصرف.

كانت للحاج محمد الحسن هيئته المحبّبة من الجميع، وكان رمزاً محبّباً لكل من عَرَفه عن كثَب، وقرأ صورة وجهه الموحية بأنه الرجل العصامي الذي لا يقبل الذلّ أو الإهانة، ولا يرضى بالتوسل حلاً، أو التعدي على الناس، بل كان أكثر ما يميّزه عن أقرانه صدقه، وإنصافه، وحبه للآخرين، والاحتكام للضمير والعقل. إنه رجل عملي، وأكثر ما يهتم بعمله وبرزقه. تجارة بيع وشراء الأغنام التي يعشقها، ويوليها اهتماماً كبيراً، وكانت خبرته في العمل الذي يقوم فيه تُدهِش أصدقاءه، وكانت تجارته مربحة جداً، ويعرف كل شاردة وواردة فيها.

دخله المادّي من تجارته جعلت منه رجلاً متوسط الغنى قياساً بأقاربه، وإن لم يكن المال يوماً من بين اهتماماته، وكان طائعاً ومحباً لله، ويكثر الاستزادة في قراءة القرآن الكريم، وحضور الصلوات الخمس في المسجد القريب من بيت ابنه، الذي ساهم مع مجموعة من الأصدقاء والجيران في بنائه، وكان يتردد عليه بصورة دائمة.

وفي يوم ما، ولأول مرة، أسرَّ لابنه بألم بسيط ينتابه بصورةٍ مستمرة، وقبل يومين من إعلان عيد الفطر، وافاه الأجل، وفقدت الأسرة والأصدقاء والأقارب الحاج محمد الحسن رحمه الله، الذي ترك بصمة لا يمكن لها أن تُمحى!

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.