الجيش الروسي... استيلاد المستقبل بعيون سوفياتية

الجيش الروسي... استيلاد المستقبل بعيون سوفياتية

09 ابريل 2014
جندي روسي على الحدود مع القرم (getty)
+ الخط -

من جيش مفككّ ومنهك القوى في أزمة البرلمان 1993، وحرب الشيشان الأولى 1996، الى جيش مهيب يُرعب أوروبا من جهة الشرق. هكذا تبدو صورة الجيش الروسي في الآونة الأخيرة. وصوت أوكرانيا الذي يلعلع في سماء الغرب، كما فعلت جورجيا قبلها في 2008، لم يسمعه أحد حتى الآن، فمن الذي قد يرغب في مواجهة قوات روسية تتطوّر بثبات؟ صحيح أن المستوى القتالي الروسي لم يصل بعد إلى ما وصل اليه سلفه السوفياتي، لكنه وُضع على السكة، وإن لم يحدث ما لم يكن في الحسبان، فإن روسيا العسكرية ستعود الى ماضيها "المجيد"، على الأقل عسكرياً.

لم يُصدّق أحد أن جيشاً صنع أسطورة ستالينغراد في ستة أشهر بين عامي 1942 و1943، ضد الجيش الألماني، إبان الحرب العالمية الثانية، سيكون ضحية بضع ثوار في الشيشان في 1996. ولم يكن أحد ليدري أن جيشاً أحمر، تداعى ببطء، ودفنه مجاهدو أفغانستان، بين عامي 1980 و1989، هو ذاته الجيش الذي ضرب يمنةً ويُسرةً في تشيكيا وبولندا ورومانيا والمجر، كما فضّل جنود وضباط الجيش النازي الألماني الاستسلام للغربيين، عوضاً عن الاستسلام له.

الجيش الروسي الحديث، يصنع نفسه بنفسه، بعدما دمّره فساد آخر سنوات الحرب الباردة، والمرحلة الانتقالية بين اتحاد سوفياتي راحل، وجمهورية روسية وليدة. آنذاك، سمح التدهور المخيف لهيكلية الجيش السوفياتي، بسقوط ضباط كبار في المحظور. منهم من ذهب الى موطنه الأصلي، كجوهر دوداييف، الطيار السوفياتي الذي قفل عائداً الى الشيشان لمحاولة صناعة استقلالها، ومنهم من انخرطوا في صفقات بيع أسلحة سوفياتية الى دول عدّة، ظهر منها في يوغوسلافيا السابقة (1992-1995)، ومنهم من انصرف الى تشكيل "مافيات" صغيرة، هدفت الى السيطرة على مقدرات البلاد "الجديدة"، بعد انفصال 15 دولة عن الكيان السوفياتي.

فضيحة الشيشان

لا "البيروسترويكا" (إعادة البناء) نفعت ولا "الغلاسنوست" (الانفتاح). الفساد أكل أركان القيادة، ومطاعم "ماكدونالدز" باتت أقرب الى قلوب الروس، من معهد "غاكزينا" للاستخبارات السوفياتية. كان الأمر مثيراً للشفقة، حين ترى جيشاً روسياً يفرّ من ساحات القتال في عاصمة الشيشان، غروزني، بما وصفته المعاهد العسكرية الغربية بـ"فضيحة الروس في غروزني". في حينها، كان الجيش واثقاً من قدرته على الانتصار، لكن شجاعة الشيشانيين من جهة، والفساد الذي عمّ الجبهات القوقازية، من بيع أسلحة وغياب التنظيم العسكري، من جهة أخرى، أدّى الى احتراق الدبّ الروسي في نيران الشيشان.

لم يعجب الأمر الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين، فقاد من موقعه كرئيس للوزراء في حينه، حرب الشيشان الثانية. كان نصراً هاماً للجيش الروسي، وكُرّس، عبر اعلان الرئيس الشيشاني، رمضان قاديروف، تسمية أهم شارع في الوسط التجاري في غروزني باسم "جادة فلاديمير بوتين".

نصر العام 1999، كان الأبرز بين سلسلة حروب صغيرة خاضها الجيش الروسي، في تسعينيات القرن العشرين: شارك في الحرب الأهلية الطاجيكية (1992-1997)، وفي الحرب الأبخازية – الجورجية (1992-1993)، الى جانب الأبخازيين، ومع الأوسيتيين في مواجهة الأنغوشيين (حرب الأيام الستة في 1992)، وقاتل الداغستانيين (1999)، كما لا يزال يحارب منذ 5 سنوات، مجموعات مسلّحة في شمال جبال القوقاز.

وأوكرانيا ليست جورجيا

لم يكتفِ الروس بمواجهة مجموعات مسلّحة واسلاميين في الداخل أو على تخوم البلاد، بل كان تحرّك جورجيا (2008)، الأكثر إيلاماً للغرب. وما حصل في المدينة الجورجية غوري، حين اقتحمها الجيش الروسي بسهولة، توجّس منه العالم. لم يعد العسكر الروسي كما كان أيام الشيشان، بات أكثر نضجاً وواقعية ودقّة في التعامل مع التحرّكات الميدانية. تناغمت الحركة السياسية مع الحراك العملاني. وفي اللحظة التي حصلت فيها موسكو على ما تشاء من تبليسي، انسحب الجيش الروسي بهدوء، ومن دون فوضى من جورجيا.

التكتيك عينه حصل في شبه جزيرة القرم، فالتدخّل العسكري لجيش الكرملين، لم يعترف به بوتين إلا متأخراً، أي بعد اجراء القرم لاستفتائها الداخلي وانفصالها عن أوكرانيا وانضمامها الى روسيا. كلّفت العملية العسكرية قتيلاً روسياً وقتيلين أوكرانيين، وسمحت بتحقيق سيطرة موسكو على منطقة تنبسط على مساحة 26 ألف كيلومتر مربّع.

فساد وجريمة
في الواقع، لم يكن بوتين "جبّاراً"، فقد نجح في استخدام جزء لا بأس به من مداخيل غاز بلاده لتمويل الجيش. تحسّنت الأجور، ولم يعد الجيش عدداً من دون عدّة، والتنسيق بين القيادة العسكرية والكرملين، إضافة الى التنظيم الميداني للجيش، تطوّر في السنوات الأخيرة، ولكن...

في موازاة الفخر الذي يشعر به كل روسي، وارتفاع شعبية بوتين بعد أحداث القرم، ارتفعت أيضاً نسب الجريمة والفساد والاتجار بالمخدرات داخل صفوف الجيش الروسي، بشكل غير مسبوق، تحديداً في الأماكن البعيدة، كسيبيريا. الفساد مثلاً، بلغ ارتفاعات مخزية، بالنسبة الى جيش يتأهب لعمليات عسكرية عدّة محتملة، بعد التطوّرات الأوكرانية الأخيرة. ازدادت نسبة الفساد 450 في المئة بين عامي 2012 و2013، بحسب مكتب المدّعي العام الروسي في يونيو/حزيران 2013، ما حدا بوزير الدفاع، سيرغي شويغو، الى التأكيد أن "الأخطاء ستُعالج".

لا يهمّ حالياً ما إذا كانت الأخطاء ستُصبح من الماضي، فما يهمّ هو القدرة العسكرية المتعاظمة للجيش الروسي. جيل جديد من دبابات "تي-99" سيدخل الخدمة في العام 2020. دبابات "بي تي آر" ستتمركز في ثكنات الجيش بحلول العام 2023. مضادات الطيران "مورفي"، ستُصبح في عهدة الجيش في 2020. أما "فخر الصناعة العسكرية" الروسية، فتكمن في منظومة "أس 350" الصاروخية، التي ستحلّ مكان منظومة "أس 300" في العام 2016. في الجوّ، يواصل الجيش الروسي تطوّره: "سوخوي باك فا"، تدخل الخدمة في 2015، "ميغ -35" توزّعت على بعض القواعد الجوية الـ61 للجيش في كل أنحاء روسيا، وبوشر العمل في صناعة المروجيات من طراز "كاموف -60"، المعنية بعمليات الجبال، وستُسلّم 100 وحدة منها قريباً. وتبقى "الهدية" الأبرز، تلك التي أعلن عنها بوتين أواخر العام الماضي: "الجيش سيُزوّد بـ40 صاروخاً عابراً للقارات في 2014".

الجيش الروسي يتطوّر بسرعة لا بأس بها، لكن البؤر الأمنية تتطوّر بسرعة أيضاً من أوكرانيا الى وسط آسيا. ومع أن جدول أعمال القيادة العسكرية في روسيا ينحصر بما يجري حول البحر الأسود، غير أن بوتين كان واضحاً في 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين رأى أن "الانسحاب المرتقب للقوات الدولية من أفغانستان، قد يؤدي ليس إلى تعقيد الظروف في هذا البلد فحسب، بل وإلى ظهور منطقة عدم استقرار في دول آسيا الوسطى المجاورة" أيضاً.

المساهمون