الجوهري في الأزمة التونسية

الجوهري في الأزمة التونسية

20 يوليو 2020

تونسية تقترع مركز تصويت قرب العاصمة في انتخابات الرئاسة (21/12/2014/فرانس برس)

+ الخط -

جاءت بشارة الربيع العربي، المغدور فيما بعد، من تونس. وجاءت التباشير الدالّة على قدرة المجتمعات والنخب العربية على مزاولة تمرينٍ انتقاليٍّ إلى الديمقراطية من تونس أيضا، لمّا نجح الجميع في هذا البلد في إنتاج توافقاتٍ على طرائق الحكم وإدارة السلطة والمناوبات الانتخابية. وعندما طرأت، في محكّاتٍ معلومةٍ، مطبّاتٌ حادّة، أنقذت كوابح من داخل العملية السياسية التجربة الوليدة من الارتداد إلى الوراء. وكان منح أربع منظمات أهلية في تونس جائزة نوبل للسلام تقديرا من العالم لدورها في بناء حوار التوافقات العامة بين القوى المتدافعة ما بعد ثورة الياسمين... هذا المسار المُطَمئِن، أقله في ست سنوات بعد الثورة، هو نفسُه ما جعل القلق عليه، أي على تقدّمه إلى الأمام، شديدَ الضرورة، بدليل الذي صار منظورا في البلد الذي يُغالب تراجعا كبيرا في أوضاعه الاقتصادية، وصار كثيرون من ناسِه يعانون عُسرا ظاهرا في أحوالهم. والموجز الجوهري في هذا أن إرادة التوافق على التغيير الديمقراطي، وعلى المضي في مسار إصلاحيٍّ عام في الدولة، صارت تتناقص، وباطرادٍ يسوّغ أرطالا مُضافةً من ذلك القلق. سيما وأنك صرتَ تحتاج جهدا خاصا لتعثر على من في وُسعك أن تحسبهم رجال دولةٍ بين الطاقم الراهن في الحكومة والبرلمان وغيرهما. وسيما، قبل ذلك وبعده، أن ثمّة نقصا في القناعة باستحقاقات الديمقراطية نفسها، ونواتجها، الأمر الذي تلحظُه في حالة افتراسٍ ذئبيةٍ، لا تني تزيد، تجاه حركة النهضة تحديدا، لا لشيءٍ إلا لانتساب الحركة إلى ما دُعي "الإسلام السياسي"، وهو لونٌ من السياسة يرى خصومٌ له معلنون الإقصاء والاجتثاث سبيليْن للتعامل معه. من دون أي اكتراثٍ بأن هذه الحركة هي صاحبة المرتبة الأولى في عدد مقاعد مجلس النواب الحالي (52 عضوا)، وصاحبة المرتبة الثانية في انتخابات 2014 (69 نائبا) بعد مقاعد حزبٍ تخلّق في داخل المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في 2011، والذي نالت "النهضة" في انتخاباته المنزلة الأولى (89 مقعدا).
ليست القصة في الأزمة المستجدّة منذ أيام أن "النهضة"، ومعها تكتلان نيابيان، قدّما لائحة لسحب الثقة من رئيس الحكومة المعين من رئيس الجمهورية، إلياس الفخفاخ، وأن الأخير استقال، على خلفية تقريرين من جهازيْن مختصيْن في الدولة قالا إن ثمّة شبهة تضارب مصالح تستوجب التحقيق فيها بشأن الفخفاخ. وليست في أن عُسرا حادّا سيكون في تسمية رئيس جديد للحكومة، وأن احتمال التوجه إلى انتخابات نيابيةٍ مبكرةٍ وارد (خيار يحبّذه الرئيس قيس سعيّد). وليست القصة في أن الائتلاف الهش في حكومة الفخفاخ (ينتسب إلى حزبٍ لم ينل أي مقعد في الانتخابات النيابية) كان تجربةً فاشلة، وأن فيروس كورونا ساهم في صيانة حالة التكاذب في داخل الحكومة من الانكشاف.. إنما القصة، في الجوهري الأبعد من هذا كله، أن تونس لا تحتمل مناكفات الأحزاب (بعضها طارئ، وأخرى منشقة عن غيره) ومكايدات الفاعلين فيها. وأن استعراضات عبير موسى التي تجهر بمناهضتها ثورة إطاحة بن علي، ولحزبها 16 نائبا، تخصم من صورة تونس بلدا للنخبة السياسية المثقفة الرفيعة. وأن العداء المتوطّن لدى أطرافٍ، ليس خافيا ارتهان بعضها (الكثير ربما) لحساباتٍ خارجية، ضد "النهضة" سيرتدّ احتقانا يستنزف البلاد، ويرهق التونسيين فيما لا طائل منه، وهم الذين عاقبوا كل الأحزاب بين ظهرانيهم بانتخاب رئيس للبلاد من خارجها. ودلّت استطلاعات المؤشر العربي الذي يجريه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على اطّراد ازورارهم عن الاقتراع، فلم يذهب إلى انتخاب مجلس النواب الراهن سوى 41.7% من المسجّلين، وهذا تأييدهم النظام الديمقراطي يتناقص في استطلاع عامي 2017/ 2018 إلى 62%، بعد أن كان 76% في استطلاع 2016، و90% في استطلاع 2015. والثقة بالبرلمان 28% في 2017/ 2018، وكانت 39% عام 2012.
كل هذا وغيره مقلقٌ على تونس التي يعوزها تدافعٌ على برامج اجتماعية واقتصادية، تنجيها من حالة الاستدانة وراء الاستدانة من صندوق النقد الدولي، والقروض ثم القروض من غير دولة، حلولا لأزماتٍ هيكليةٍ ومتتابعة، ولارتفاعاتٍ متوالية في الأسعار، وفي أعداد العاطلين.. تتآكل ثقة التونسيين بنخب الحكم والتمثيل البرلماني في قدرتهم على اجتراح الحلول لمشكلاتٍ معيشيةٍ صارت بالغة الصعوبة، فيما هؤلاء على ما رأينا في غضون حكومة الفخفاخ، لمّا تشكلت ثم لمّا زاولت في شهورها الأربعة تعايشها المفتعل ثم لمّا انصرفت، وعلى ما سنرى.

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.