الجزائر... فردوس الدولة المدنية المؤجل

الجزائر... فردوس الدولة المدنية المؤجل

22 سبتمبر 2015

بوتفليقة في حفل أدائه القسم لولاية رابعة (28 أبريل/2014/الأناضول)

+ الخط -
منذ أوبته على كرسي متحرك من فرنسا قبل عامين، والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يعمل على إضعاف منظم لجهاز الاستخبارات الجزائري، المعروف شعبياً "دي آر أس"، (اختصار فرنسي لدائرة الاستعلامات والأمن). وسبب ذلك رجح مراقبون أنه تحركات حثيثة قام بها قائد المخابرات، الجنرال محمد مدين، المعروف بشهرته الجنرال توفيق، من أجل خطة بديلة في حال طالت غيبة الرئيس التي امتدت ثلاثة أشهر متوالية. 

وقد عُرف بوتفليقة بتمرسه الكبير في فنون المراوغة السياسية، واتضح أن قراراته كانت مُهندسة بعناية فائقة، فاستهدفت أولاً عقيدة الغموض التي لجأت لها مؤسسة المخابرات، وهي تقف سدّاً منيعاً ضدّ الإرهاب في التسعينيات. ففي رمشة عين، أصبحت تتداول على الملأ أسماء ضباط وقيادات عليا، وأشيعت أسماء دوائر وأقسام، كانت إلى وقت قريب منعدمة الذكر والوجود، في ما يشبه تمهيداً درامياً محكماً لتفكيكها، ووُجهت بذلك ضربات موجعة استثمر فيها رهاب الميديا المزمن الذي تعاني منه أجهزة المخابرات على النمط الشرقي؛ كما تجرأت الدولة على نفسها، حين شنّ الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، عمّار سعداني (وهو المحسوب على محيط الرئيس) هجوماً غير مسبوق على شخص الجنرال توفيق.
بعد ذلك، توالت مراسيم رئاسية، أحالت فلاناً إلى التقاعد، وألحقت الدائرة العلّانية بقيادة الأركان، الهيئة التي أُنيطت برجل وفيّ للغاية، هو الفريق قايد صالح المقرب جداً من الرئيس بوتفليقة، وتنبأ مراقبون كثيرون بقرب "نهاية رجل شجاع". وجديد فصول هذه النهاية كان سجن الجنرال الملقب حسان، في سابقة مثيرة في تاريخ الأحابيل السياسية الجزائرية، وهو المسؤول عن قسم مكافحة الإرهاب الذي يضم صفوة من العسكريين المتمرسين، وظلّت هذه القضية المبهمة، في نظر الكثيرين، وسيلة لدفع الجنرال توفيق للرحيل، فحسان كان آخر رجاله المقربين، وهكذا، وما هي إلا أسابيع، حتى صار الجنرال توفيق حدثاً لا ينتمي إلى حاضر قيد التشكل.
هذا الحاضر الذي سُوّغ بخطابيات منتفخة عن تحوّل مُزمع إلى فردوس الدولة المدنية في الجزائر، يجد تكذيبه الفوري في فاتورة هذا التفكيك المنظم لجهاز المخابرات، فالحقيقة التي
أصبحت عياناً، وأُسقطت في خضم بارانويا البحث عن صور جديدة للجنرال الغامض، هي أن جيوب رئيس الأركان صارت مُثقلة بعدد لا يحصى من الصلاحيات، ويتبعه تقريباً كل عسكري في البر والبحر والجو، وابتلعت قيادة الأركان جهاز المخابرات بقضمة واحدة؛ وعِوض أن تُستنهض مؤسسات دستورية مدنية قوية، ويتم إصلاح القضاء مثلاً، تعاظم نفوذ قيادة الأركان بشكل سيضعف مستقبلاً من التوازن المؤسساتي في البلاد. ووفق التصور نفسه، فإن دعاة الدولة المدنية هؤلاء يبدون كالمستجير بالرمضاء من النار، ليغدو واضحاً أن الأمر لا يتعلق بتجاذب أيديولوجي محموم حول ثنائية السياسي/العسكري، بل الأمر يتعلق، ببساطة، بما بعد بوتفليقة، والغاية الكبرى هي ترتيب خلافة آمنة "للميستر إكس".
وهكذا، انتهى شهر عسل امتدّ أزيد من عقد بموت رمزي لإحدى الآلهة السياسية القديمة، وغسق صنم عتيق، وهو شهر انطلق ذات ربيع سنة 2004، حين تحالفت سلطتا الرئاسة والمخابرات ضدّ قيادة الأركان، إثر انحياز الأخيرة لمرشح اسمه علي بن فليس؛ وأسفرت هذه الانتخابات عن فوز هذا التحالف. وقد ضمّت تلك الانتخابات الرئاسية صلاحيات الربع الباقي إلى الثلاثة أرباع التي كان يتململ منها بوتفليقة، وانطلق في رحلة توطيدها وتعزيزها، فقام بتبديد القطبية التي كان يتمتع بها قائد الأركان، وأحال الحرس القديم إلى التقاعد، أو إلى سفراء في بلدان أخرى، كما حصل مع الرجل القوي، العربي بلخير، وصار بوتفليقة "أشهر مغتالي الآلهة العسكرية". كما أُفرغ منصب رئيس الحكومة من صلاحيات كبيرة، وصار أشبه بمنسق حكومي، وتمّ العمل على كنس الساحة السياسية، وتبعثرت أحلام الإسلامي السياسي، بعد أن نجح بوتفليقة في ضم أكبر أحزابها إلى "التحالف الرئاسي"، وزالت شراسة كانت تُعرف بها المعارضة اليسارية لويزة حنون. وبذلك، تم تشييد نظام رئاسوي مغلق خِيط على مقاس شخصٍ بعينه، ولم يتم الاعتناء بتحول متبصر إلى الدولة المدنية.
في المقابل، كان لهذه التحركات ثمن آخر، إذ نَـمَا نفوذ جهاز الاستخبارات، أو "ذوو البدل المدنية"، بتعبير رئيس المجلس الدستوري السابق، سعيد بوالشعير، وصار ظلّهم يماثل ظلّ رئاسة الجمهورية، وتقاسم الاثنان عبء حفظ توازن صوري، إلى أن أُضعفت إحدى الكفتين بالمرض المفاجئ للرئيس، وهو مرض أعاد توزيع الورق، وساهم في تغذية طموحات لم تعجب محيط الرئاسة، خصوصاً بعد تسريبات متوالية لفضائح مالية، وشبهات فساد طاولت مقربين من الرئيس، في مقدمهم وزير الطاقة السابق، شكيب خليل.
بعد مرور الجلطة الدماغية للرئيس بسلام، توالت قرارات لصالح إضعاف جهاز المخابرات، وطُمرت فضائح الفساد، وأسقطت الدعاوى ضدّ وزير الطاقة الذي رحل إلى أميركا، وظهر جلياً الاستقواء بالأركان هذه المرة. وهكذا، تعيد الحلقة التاريخية إدارة نفسها، فالجيش الذي تدخل، في مناسبات عدة، بعث قائده رسالة تهنئة لعمار سعيداني، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني والخصم العلني للجنرال توفيق، بمناسبة تجديد عهدته الانتخابية، مفصحاً بشكل واضح عن خياراته السياسية.
وهكذا تتحالف بقدرة قادر الرئاسة مع قيادة الأركان، هذه المرة، ضدّ المخابرات، لتبرهن لنا السياسة، مرة أخرى، ناموسها الذي بشّر به مكيافيلي يوماً.

71A67D8E-A3B7-4C16-95E9-CB9DCD05E346
محمد الصالح قارف

كاتب ومترجم جزائري، يعمل مهندسا كهربائياً، أصدر مجموعة قصصية، وفاز نص مسرحي له بالمرتبة الأولى من جائزة الدولة التشجيعية للكتاب الشباب.