التعبئة العامة وأمي

التعبئة العامة وأمي

29 مايو 2015

طفلة سورية لاجئة في لبنان (Getty)

+ الخط -
قال لي خالي قبل أعوام: يا خالي، أحصينا ذرية جدك قاسم، وجدتك هاجر، فكان عددهم حوالى 380 بين أبناء وأحفاد وأحفاد الأحفاد...إلخ، وأنت وإخوتك وأبناؤكم وأحفادكم من هؤلاء. 
نحن، إخوتي وأنا وذرياتنا، الوحيدون الفلسطينيون بين هؤلاء، فأمي لبنانية جنوبية. هكذا يحلو لي أن أعرّفها، جنوبية طازجة دائماً بالحب، ولون بشرتها مثل لون تراب أرض الجنوب، أحمر يقترب، بشغف وخصوبة وبهاء، من اللون البرونزي، أو قل النحاسي الذي ينافس الذهب في صفائه، وعيناها خضراوان تتماهيان، بنعاس وذبول أنثوي، ولون أوراق شجر الزيتون، أو أوراق شجرة الخروب، أبدية الخضرة التي لا يهزمها زمن ولا شيخوخة. كانت أمي شيعية، لكنها، كما قلت مرة، ماتت من غير أن تدرك أنها شيعية، ولا أبي أدرك قبل أن يموت أنه كان سنيّاً.
واستكمالاً لرواية خالي قبل أعوام، فإن عدد أفراد ذرية جدي قاسم وجدتي هاجر لا بد وأنه زاد على الأقل مائة فرد أو أكثر من مائة، فالجنوبيون يعشقون العائلات كثيرة العدد، تماماً مثل الفلسطينيين، بسبب البارانويا المتأصلة في نفوسهم، وخوفهم من الانقراض، وإحساسهم بالغبن وباستهداف كينونتهم من آخرين، وخصوصاً مع وجود أحزابٍ، كحزب الله، يرى في الموت عادة، وكأنها شراب باردٌ في يوم قائظ.
تذكّرتُ رواية خالي، واستحضرتُ اليوم أمي، التي عاشت معنا في المخيم، إلى أن رحلت قبل عشر سنوات، تاركة في أرواحنا إرث الحب والتسامح والتعالي عن كل ما يشوّه صورة الحب الحقيقي للإنسان الخالص. تذكرتُ رواية خالي، وأنا أستمع إلى خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، حول التعبئة العامة في صفوف حزبه، والطائفة الشيعية التي ترتكز عليها كل أفكاره وحراكاته السياسية والعسكرية. فلو كانت التعبئة العامة، التي أطلق نفيرها نصرالله، أخيراً، ستكون في صفوف الحزب فقط للقتال في سورية أو عرسال أو اليمن أو العراق، كما هو واضح من الدور الذي يقوم به الحزب في الراهن السياسي، فإن بعضاً من ذرية جدي سيكونون قرابين وضحايا في هذا الأتون الجحيمي الذي يجر إليه نصرالله أفراد حزبه، إرضاء لتعليمات الوليّ الفقيه في طهران، فأنا أعرف أن أبناء أخوالي وخالاتي وأحفادهم ليسوا بعيدين عن هذا الحزب، فقد قتل منهم في حرب يوليو/تموز 2006 فتية كانوا يقاتلون في صفوف الحزب ضد إسرائيل. وعلمت، أخيراً، أن واحداً من أبناء إحدى خالاتي أصيب له ولدان شقيقان إصابات بالغة، أقعدت أحدهما، وجرحت الآخر جرحاً بليغاً في أثناء مشاركتهما في القتال مع حزب الله، في حربه الظالمة ضد الشعب السوري.
ولو كانت التعبئة في صفوف الطائفة الشيعية كلها، كما أشار نصرالله إلى عدم اكتراثه، لو فقدت نصف عددها، أو ثلاثة أرباع هذا العدد، فكيف لي أن أتخيل العدد الكبير الذي سيقتل من ذرية جدي قاسم وجدتي هاجر، في مغامرات حسن نصرالله التي لم تتوقف منذ زمن. وصرت أفكر، ساخراً أحياناً ومتألماً أحياناً، هل سيتم إدراجي ضمن صفوف المرشحين للموت في هذه التعبئة العامة؟ أم أن موقفي من سياسات حزب الله، منذ غرقه في دماء السوريين، سيضعني على لائحة "شيعة السفارة"، كما أسماهم نصرالله؟ وأي سفارة تلك، والولايات المتحدة لم ترد على طلباتي المتكررة للحصول على فيزا دخول إلى أراضيها، على الرغم من الدعوات الرسمية من مهرجانات سينمائية، وحتى من قناة "سي إن إن" منذ أكثر من عشرين عاماً؟ أم أنني لا أحسب على الطائفة المستهدفة بالتعبئة العامة لفلسطينيتي، على الرغم من أنني من ذرية قاسم وهاجر اللذين حملت من ظلال روحيهما حبي أرض الجنوب، وهدهدتني شجرة الخروب في قريتهما، ولا أزال أحلم بالنحلة التي كان يلاحقها جدي بين الوديان والتلال، ليصل إلى قفير عسلها.


8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.