البجع الأسود يحكمنا: داعش وترامب والسكين

البجع الأسود يحكمنا: داعش وترامب والسكين

21 يناير 2017
(طيور أسترالية، تصوير: ميلتون وردلي)
+ الخط -

نستطيع القول إن "الشمس إما أن تشرق غدًا" أو أنها "لن تشرق غدًا"، ولكن هذه البدائل إما/ أو لم تعد مقبولة في تعاطينا ومقابلتنا للأحداث والظواهر شديدة التعقيد.

فبعد ظهور البجعة السوداء في أستراليا، تبيّنت محدودية معرفتنا في تكوين الأحكام والقوانين، والتي نبنيها بالمشاهدات وتكرار الأحداث والعادة، كما حدّدها الإنكليزي ديفيد هيوم في نظريته عن الاستقراء، وإمكانيتنا في صياغة الاعتقادات التي تكاد تكون حقاق ثابتة بالنسبة لنا، وهي هكذا لأنها ترتبط بحسب صاحب "بؤس الأيديولوجيا" كار بوبر بالميل الغريزي، فلو كان هناك حالة واحدة سالبة قرّرت وجود بجعة سوداء واحدة لكان هناك قبول لقضية "ليس كل البجع أبيض".

تنتشر بجعة أستراليا وما تضمنته من "ندرة الحدوث، التأثير الطاغي، غير قابل للإدراك والتوقّع" من حولنا، وهو ما أبانته السنوات الأخيرة من عمر الحياة في العالم العربي والغربي، فالظواهر الجديدة التي تنتشر تباعًا أحدثت صدمات متتالية للسائد والراسخ من الاعتقادات، لدرجة عدم الاعتراف بها أو فهمها بناءً على رغباتنا لا كما هي عليه.

في سورية، كانت البجعة السوداء، الإعلان عن ظهور أخطر وأغرب تنظيم ديني متشدّد عرفته الساحة العربية، ألا وهو "تنظيم داعش" في الساحة العربية في سورية.

تمثّلت خطورة "داعش" بالطريقة التي ظهر فيها وبالأدوات والوسائل التي استخدمها، ومدى القدرة لديه في العدة والعتاد، فكان التنظيم غير متوقع ومفاجئ والأحداث التي قبله لم تدل عليه، إذ قوبل ظهوره في البداية بحالة من الإنكار وعدم الاعتراف به على الرغم من فرض سيطرته على أراضٍ واسعة من سورية والعراق، ورميه باتهامات مختلفة من دون البحث المعمّق في دلالاته ومن أين يستمد شتى أصوله؛ واكتفى كثير من الباحثين والرؤساء بالقول إن التنظيم عبارة عن مجموعات صغيرة لن تدوم طويلًا.

لكن بدأ هذا التنظيم يحظى باهتمام أكبر من المحلّلين ومراكز الدراسات، بيد أن "داعش" بقي حبيس الفروض الجاهزة في التعاطي معه، وكان لا بد من التحايل على المعرفة، في رفض جديّة الظاهرة، والتعامل معها على أنها مقبولة ومتوقّعة، فكان هناك ثلاث فرضيات لـ (من يكون داعش)، أولها أنه صنيعة النظام السوري، والثانية أمركته وتبعيته لأميركا، ثالثها أن الإسلام بريء منه وأنهم خوارج العصر، ولو نظرنا في تلك الفروض للأصل لرأينا أن كلاً منها ثابت لم يتغيّر منذ نشأة "داعش"، ولم يواكب نمو الأخير، فكل واحدة تأخذ منحى بنيت عليه، اليسار والإسلام وأميركا، في حين لو دقّقنا أكثر لوجدنا أن "داعش" يحوي الثلاثة.

بالانتقال إلى محط أنظار العالم هذه الأيّام، أميركا، حيث لم يكن يُتوقع حدوث تفجيرات 11 سبتمبر على الإطلاق في 10 سبتمبر، ولو كان ذلك لكانت الطائرات المقاتلة تحوم فوق برجي التجارة لمنع وقوع الهجوم. وبالتالي فإن وقوع حدث لأنه فقط لم يكن متوقعًا حدوثه هو أمر غريب في حد ذاته، وبعد وقوع هذا الحدث أظهرت الولايات المتحدة الأميركية أنها قادرة على التنبؤ بمثل هذا الحدث، من خلال تجنّب ما تصفه بـ "الإسلام الإرهابي"، إذ قامت بتجنّب بناء أبراج شديدة الارتفاع. متوقّعة تكرار مثل هذه الهجمات، بينما في الواقع احتمال تكراره كان ضئيلًا.

ومن ثم جاء دونالد ترامب وتسلّم حكم الولايات المتحدة أمس الجمعة، وعلى إثرها أيضًا يجري نوع من تجنّب "الإسلام والمسلمين" هذه المرّة بمنعهم من دخول الولايات المتحدة، وكانت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول كالبجعة السوداء التي ظهرت في أستراليا، ولم يكن ترامب كالشمس التي اعتدنا ظهورها كل يوم من الشرق، فلا أحد يصدق إلى الآن وجود ترامب رئيسًا لأميركا، فصورة الرئيس الأميركي كالبطل الهوليودي، له صفات تميّزه كقائد لأقوى دول العالم، ولكن جنون ترامب وتصريحاته جعلت الناس في حالة صدمة، وبدأت مئات المقالات تنهال في المواقع الإلكترونية عارضة تحليلات ووجهات نظر على أنها تفسير لظاهرة "ترامب" وكيف ولماذا تولى الحكم؟، في المقابل من امتص صدمة ترامب واعتبر أنها غير مفاجئة بالنسبة له، دخل في التعميم، من خلال إسقاط صفات ترامب على الشعب الأميركي، وبأنه يمثّل بحق أميركا ومن والاها.

بجعة سوداء أخرى؛ البجعة هذه المرّة هي السكين، من منّا كان يتوقّع أن تستحوذ السكين على كل هذا الاهتمام بالنسبة للإنسان في وقتنا الحاضر، واستخدامها كسلاح في ظل انتشار التكنولوجيا والأسلحة المتطوّرة، وإذا قلنا إن فلسطين مثال على ذلك، فالأدوات الجديدة التي يستخدمها الفلسطيني في الدفاع عن أرضه والتعبير عن غضبه ونفاد صبره من الاحتلال وممارساته، قادته للتفكير بأدوات جديدة، كانت السكين إحداها، لم تكن "إسرائيل" على علم بأن أحداً من الفلسطينيين سيقوم باستخدام السكين وطعن الجنود أينما طاولته يده، وليس هناك من تقييدات تمنع الصغير أو المرأة من اللجوء إلى الطعن، فكانت تلك، بمثابة البجعة السوداء لحكومة الاحتلال، وقد عبّرت عن استيائها وغضبها وعدم قدرتها على مكافحة تلك العمليات التي يقوم بها الشعب الفلسطيني للدفاع عن أرضه، وبالنسبة للكيان الإسرائيلي لم يكن متوقّعًا أن أحدًا سيقوم بطعن جنودها بتلك السكين/ البجعة السوداء، وإلا لاتخذت إسرائيل احتياطاتها ولكن هذه المرّة ليس ببناء أبراج شديدة الارتفاع.

الأمثلة كثيرة للبجع الأسود الذي يحكمنا ويظهر لنا، فالحياة كالمدفع الذي يحاربنا بقذائف البجعات السوداء، لذا الأولى بنا الإكثار منها في توقعاتنا، والقول بأن ليس كل البجع أبيض، وأن هناك من هو أسوأ من ترامب وأن التشدّد الداعشي عالمي وليس في الرقّة والعراق فقط، ويتوقّف الأمر على مدى إيماننا بالتطوّر الذي يحكمنا، وأن محاكمة أو تفسير الأحداث والظواهر الجديدة يرتبط بمجاراة تطوّر تلك الأحداث، فالثبات والحقائق والاعتقادات التي نحتفظ بها وندافع عنها لا محل لها في زخم ما نعيشه، إذا ما أخذنا نموّها وتطوّرها في الحسبان.

المساهمون