الباشا والمقشة

الباشا والمقشة

21 يونيو 2015
+ الخط -
عادةً، لست من الذين يهرعون نحو أي شيء، إيماناً مني بأنه لا شيء في الدنيا يستحق أن تهرع إليه، فلو كان مهماً لهرع هو إليك. ومع ذلك، جعلني صوت الارتطام القوي أهرع إلى الشباك، لأستطلع مصدره، خصوصاً أنه لم يكن مألوفا في الشارع النيويوركي الذي أقيم به.
من شباكي القريب من موقع الحدث، بدا المشهد درامياً بامتياز: سيارة مقلوبة رأسا على عقب، تستقر إلى جوار سيارتين، تحطم جانباهما، بعد أن اصطدمت بهما السيارة المقلوبة، ليتناثر الزجاج في أرجاء الشارع.
بعد لحظات أطل من شباك السيارة المقلوبة، رأس سيدة خمسينية تنظر حولها في ذهول، تصادف مرور سيارة بوليس بالمكان، فخرج منها ضابط أخذ يتحدث في اللاسلكي مبلغاً عن الواقعة، قبل أن يتجه إلى خزان بنزين السيارة ليتفقده، ثم يقف إلى جوار السيدة، مطمئناً على عدم إصابتها، ومع أنها بدأت تحاول الخروج من السيارة. لكن، لا الضابط، ولا أحد من المارة المحيطين بالمكان، مد يده لمساعدتها على الخروج، لا عن نقصٍ في الشهامة، بل لأن أي تدخل خاطئ قد يسبب لها مضاعفاتٍ غير مرغوب بها، ولأن هذا عمل رجال الإسعاف الذين أخذ جاري الآسيوي يسبهم، لأنهم تأخروا كثيراً، مع أن الحادثة لم يكن قد مر عليها أكثر من دقيقتين بالعدد.
استجمعت السيدة قوتها، وأخذت تزحف على ظهرها خارجة من الشباك، في حين أخذ الضابط ينصحها بالانتظار، حتى يصل الإسعاف، بعد أن قامت السيدة من رقدتها، مدت يدها إلى حقيبتها التي كانت قد طارت خارج السيارة، وأخرجت منها علبة مناديل، وأخذت تمسح وجهها ويديها وملابسها، ثم بدأت فجأةً تمسح الحقيبة من التراب بعناية شديدة، فكتمت شخرة تليق بترتيبها المختل للأولويات، لكن الضابط، على حد سمعي، لم يشخر لها أو يشخط فيها، على الرغم من تأكده من سلامتها، بل ظل يتقافز حولها مثل ظبي حنون، طالباً منها أن تستند إلى سيارته، وتأخذ نفساً عميقاً لكي تهدأ أعصابها.
خلال لحظات، وصلت إلى مكان الحادث سيارتا مطافئ وسيارة إسعاف وسيارة ونش تابعة للبوليس، ونزل منها، على الرغم من تفاهة الحادث، حشد من رجال البوليس، يحمل بعضهم أجهزة غريبة، فهمت أنها معدة لتأمين احتراق السيارات التي تتعرض لحوادث مرورية، وبدأ الكل في ممارسة إجراءات جادة، خدشت هويتي مواطناً شرق أوسطي، كان يظن أن تلك الإجراءات لا تحدث إلا في أفلام هوليود التي تنتجها المخابرات الأميركية، لكي تغسل عقول مواطني العالم، وتنسيهم جرائم الشيطان الأميركي الأكبر.
لا أخفيك، تماسكت نفسياً أمام مشهد الطبيب الذي أخذ يفحص نبض السيدة وتنفسها وضغطها وحالة عظامها، وتماسكت أمام تباري رجال البوليس في الاطمئنان عليها برغم سلامتها الظاهرة، دون أن يقول لها أحدهم بانفعال: "مش كنتي تسوقي كويس يا ولية.. أهي سواقة النسوان دي اللي بوظت البلد"، ومن دون أن يدوّي صوت الكلاكسات من السيارات التي تزاحمت في انتظار إخلاء الشارع، لكنني عجزت عن التماسك في تلك اللحظة التي أخرج فيها ضابط طول بعرض بشمخة، مقشّة من شنطة سيارة البوليس، فشهقت فزعاً، فوجود عصا طويلة في يد ضابط شرطة يرتبط شرطياً في ذهني، كمواطن صالح، بوقائع التعذيب وهتك العرض، لكن الضابط المهيب فاجأني، حين وصل إلى جوار السيارة المقلوبة، حين بدأ يكنس الزجاج المتناثر في الأرض، لكي لا يدخل في إطارات السيارات، بعد إخلاء مكان الحادث، في حين اقترب ضابط آخر، لا يقل طولاً ولا عرضاً، بجاروف لكي يضع فيه زميله الزجاج الذي كنسه.
حين رأيت بعض المارة يصورون المشهد بمحاميلهم، قلت لنفسي لأمنعها من الوقوع في الخديعة: هذا فيلم مخابراتي ملعوب، تم تحضيره باحتراف، لينسى الناس جرائم الشرطة الأميركية التي تضاعفت في الشهور الأخيرة، وحين أشار أحد المارة بحماس إلى الضابط، لينبهه إلى منطقة تكدس فيها الزجاج، انبعثت مني شخرةٌ لا إرادية، حين ابتسم له الضابط، قبل أن يتجه إلى حيث أشار، ليواصل مهمته في الكنس، من دون أن يتكالب عليه المواطنون لمساعدته، أو لتقبيله من فمه وحمله على الأعناق، وهم يهتفون بوحدة الشعب والجيش والشرطة، أو يطلب منه أحدهم التوقف عن الكنس، حفاظا على هيبة خير أجناد الغرب، بل ذهب كل منهم إلى حال سبيله، ليؤدي عمله، ويترك الضابط لعمله، من دون أن يدري الجميع أنهم بما فعلوه، أساءوا كثيراً إلى مشاعر مواطن، ينتمي لخير أمةٍ أخرجت على الناس.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.