الاصطفاف والتنازل

الاصطفاف والتنازل

14 فبراير 2016
+ الخط -
مع الدعوات الكثيرة للمصطلح الجذّاب، مع الاحتفاظ بحرف الجيم من دون تغيير، والذي كلما تقدمت الثورة المصرية، أو القوى المناهضة للانقلاب، خطوة انبرى من ينادي بقولة حق لا ندري ماذا يُراد بها، وهي الاصطفاف الثوري لجميع القوى المناهضة للانقلاب، حتى تسهل مواجهة ضياع الدولة وسقوطها في مصر ، وغالباً ما تصاحب تلك الدعوات مبادرات تحمل مزيداً من التنازلات، لعلها تلقى قبولاً من العسكر الذي لا يعرف سوى لغة واحدة، تفتقر إلى كلمات مثل الحل السياسي أو حق الشعب أو المصالحة أو العودة إلى الثكنات وترك السلطة، وما يتبعها من مصالح اقتصادية مركبة، ويصعب نزعها أو تحييدها.
والعجيب أن من يدعون إلى الاصطفاف مع الآخرين هم أنفسهم من يقدمون استقالات جماعية من إحدى الكيانات الثورية، مع ما تحمله من اتفاق خفي، وتعاون من نوع آخر، وأشياء لا تحمل معاني جيدة في أغلب الأحيان، فهم كمن يفرّق ليصطف، ويهدم وهو يدعو إلى البناء، وتجارب الاصطفاف تنبني على فرضية أن الثورة المصرية انتصرت، بسبب وجود تلك الحالة في ميدان التحرير خلال ثمانية عشر يوماً. ومع وجاهة تلك الفرضية، إلا أن الكاتب يرى أن الثورة ما نجحت في إطاحة حسني مبارك بهذه السرعة، إلا لأن العسكر وجدها فرصة سانحة لهدم مشروع توريث الحكم لمدني، ولو كان ابن الرئيس. لذا لم يفعلوا مجزرة كما حدث في ميداني رابعة والنهضة، ولو أرادوا لفعلوا، خصوصاً بعد الحالة التي سادت الميدان، عقب الخطاب المؤثر لمبارك، استجدى فيه الشعب، ومع ترويج مغالطة أخرى مفادها بأن الجيش حمى الثورة، في حين أنه حمى مصالحه، وأن خطط العسكر في الالتفاف على الثورة بدأت منذ إعلان التنحّي، وحتى لجوئهم إلى الانقلاب. ولمن لا يتذكّر، حاول العسكر التأجيل والمماطلة في التحول الديمقراطي، ولم يكن ليستجيب إلا بالمليونيات المتكررة، وانفض الاصطفاف بعد أقل من شهر من تنحي مبارك، بالاستفتاء على بعض مواد الدستور، وقيام العسكر بالإعلان الدستوري وإصدار مواد لم يتم الاستفتاء عليها أصلاً.
الشاهد من ذلك أن الاصطفاف لم يدم سوى أيام قليلة، والأسباب عديدة لا مجال لذكرها، فمن غير المقبول أن نروج مقولةً، نجعلها مسلّمة، يتم البناء عليها، فيصبح بناءً خيالياً واهياً مثل بيت العنكبوت، وهدم المسلمة لا يعني التقليل من أهمية الاصطفاف ووحدة الصف، لمواجهة نظام يهدم نفسه وشعبه أيضاً. ولكن، يجب أن يكون الاصطفاف على أسس واضحة، بعيداً عن البيانات والعبارات التي تحتمل أوجهاً كثيرة من التفسير.
من أهم هذه الأسس الاعتراف بأن من ثمار الثورة اختيار الشعب رئيساً بانتخاباتٍ شهد العالم
بنزاهتها، ولا تمحي هذه الشرعية مظاهرة احتفالية راقصة تمت ساعات بمباركة العسكر وتدبيرهم، كما اتضح سابقاً ولاحقاً، وأن الثوار على الأرض، وفي شوارع مصر وحواريها، تطالب بعودة الرئيس المختطف، ومن يدعو إلى الرجوع بالثورة إلى يوم التنحي يتجاهل دماء قدمها الشعب، من أجل الوصول إلى مرحلة اختيار دستوره ورئيسه، وتجاهل ذلك يهدم الفكرة من جذورها، وإنْ وافق عليها ثوار الخارج فلن يقبلها هؤلاء الذين لولا صمودهم وتقديمهم الشهداء لاستقر الوضع للعسكر ولانطفأت جذوة الثورة.
الوقوف في وجه العسكر ومقاومة طغيانه وبطشه واجب لا يحتاج لوضع الاشتراطات والإملاءات للقيام به، ومن يجعل عودة الرئيس من المسكوت عنه كمن يضع قنبلة قابلة للانفجار، من دون أن ينزع فتيلها، فالوضوح أهم أسس الاتفاقات والمبادرات، كما أن وجود تصور وبديل شرعي لحكم العسكر نقطة قوة يجب التمسك بها، لا القفز عليها، من أجل إرضاء بعضهم وضمهم لصفوف المقاومة.
ثمة نقطة جديرة بالاهتمام تكمن في كثرة المبادرات، من دون تحديد لمن تقدّم؟ أي نزاع له طرفان، ونحن أمام ثورة شعب في مواجهة سلطة غاشمة، تجاوز طغيانها الحدود الجغرافية، وما قصة تعذيب الباحث الإيطالي وقتله منا بعيدة، وليس من المقبول أن نطالب الشعب بالتنازلات تلو التنازلات، والسلطة لا تعبأ بذلك، أو نحل كيانات لنشكل كيانات جديدة ونسير في حلقة مفرغة لا تنتهي.
كثرة ترديد المصطلح، فضلاً على أنها أفقدته مضمونه، فقد أصبح في أذهان كثيرين مضاداً للشرعية، ويعني مساواة من ركب الدبابة، وهو يعلم أنها تعصف بالديمقراطية، كما قال بعضهم (نعم كنا نعلم)، بمن دهسته تلك الدبابة، وهو يطالب باحترام إرادته في اختيار من يحكمه. والغريب أن من يطالب الثائرين بالتنازل عن الشرعية من أجل الاصطفاف هو نفسه لا يقدم أي تنازل عن مطلبه غير المشروع بتجاوز الرئيس، فما عليك إلا أن تتنازل، حتى يتواضع الآخر، ويقبل أن يقف معك في الصف المقاوم، وإلا فإنك تفضل أن تبقى في حالة البطش والقتل على الاصطفاف الذي فقد معناه، والذي يمكن أن نسميه الاصطفاف بالتنازل.