الإنسان الجديد.. بحسب ميشيل سير

الإنسان الجديد.. بحسب ميشيل سير

23 اغسطس 2014
تصوير: توما ليزنيه
+ الخط -

ميشيل سير (1930) منشغل بالتواصل منذ بدايات مشروعه الفلسفي. أطروحة الدكتوراة التي قدّمها حول فلسفة لايبنز، والأجزاء الخمسة التي وضعها حول هرمس، إله الاتصال لدى الإغريق، في بدايات تجربته، تشير إلى رغبة واضحة لدى الرجل في فهم العالم الذي يعيشه، فلسفياً. ليس عالم الأمس الذي شغل ميشيل فوكو، ولا عالم المفاهيم الذي شغل زميله الآخر جل دولوز.

إنه عالم اليوم، عالم الإنترنت والفايسبوك والهاتف المحمول وتقدم الطب ونهاية الزراعة، المتطور بسرعة هائلة والمرتكز إلى التواصل بشكل لا سابق له في التاريخ. عالَم يطرح كثيراً من الأسئلة على الفيلسوف الفرنسي الذي يعود مرة أخرى إلى ثيمة التواصل محاولاً الإجابة عن تلك الأسئلة في كتابه "الإصبع الصغيرة" الصادر أخيراً بترجمة عربية في سلسلة "كتاب الدوحة".

يراقب سير شتى مفاصل الحياة اليومية التي نعيشها. يسجل ملاحظاته ويستعين بإحصائيات ومعلومات حول كل الأصعدة. الاقتصاد والعمل والسياسة والسلطة والبيئة والتعليم والعلاقات الاجتماعية والأخلاق والجمال والمتوسط العمري للبشر والعمران ووسائط النقل وغير ذلك. يقارن معطياته بمعطيات الأمس، فيخلص، هو العلميّ الدقيق، إلى أننا، رغم كل المشاكل، على طريق التقدم إلى الأمام. هذا فيما يخص الكمّ أو المحتوى الخاص بالمقارنة. أما فيما يخص الكيفية، كيفية عيش الأجيال الجديدة، فإنه يرى أننا في طور الذهاب إلى قطيعة شبه كاملة مع حيوات الأجيال السابقة، ما يدعوه إلى إعلان ولادة إنسان جديد، يسميه إنسان "الإصبع الصغيرة"، الذي ما عليه سوى تحريك هذه الإصبع، أو أصابع يديه الأخرى، ليحصل على ما يريد أو ليتواصل مع من يريد.

على هذا، لا يبدو، انطلاقاً من أطروحة سير، أن زمن الحياة القديمة، التي كانت تتطور ببطء حتى ستينيات القرن الماضي، هو الوحيد الذي ولى، بل وكذلك زمن القراءات الفلسفية القديمة. الرجل الذي يكتب "أحبّ هؤلاء الناس الشباب" ويتمنى لو كان واحداً منهم، يدعو في الوقت نفسه زملاءه من المفكرين والمثقفين إلى الوقوف مع ووراء هذا الجيل. دعوة للنزول من عرش اللغة الغامضة وتعقيدات الماورائيات والمفاهيم والنظريات إلى بساطة اليومي ومشاكله واحتياجاته. وهي دعوة فلسفية نادرة في هذا الوقت الذي يتخلى فيه كثير من الفلاسفة عن تعريف الفلسفة بوصفها أماً للعلوم، ما يحيد عنه سير الذي يتبنى هذه النظرة الإغريقية إلى الفلسفة باعتبارها عقلاً لحقول البحث والتفكير الأخرى.

ما يميز سير عن زملائه الفرنسيين، في كتيّبه الأخير (70 صفحة) وفيما سبقه من إصدارات، ليس تناوله ثيمات وإشكاليات منفتحة على عصرنا أو الأدوات التي يستخدمها لفعل ذلك فحسب. إنه تفاؤله. تفاؤله بالفلسفة وبالتكنولوجيا وبالعلم وعدم احتواء خطابه على تلك الإيديولوجيا المذعورة من "العالم الجديد".

فعلى عكس عدد لا بأس منه من مجايليه، مثل جان بودريار الذي يلحق كثيراً من عواقب التكنولوجيا بسياق الرأسمالية والعولمة التي ينتقدها، يمتدح ميشيل سير هذه التكنولوجيا الجديدة وجيلها الذي يرى أنه، مثلاً، أقل ضرراً بالطبيعة من الأجيال السابقة، بل وأقل اكتراثاً بالإيديولجيات والتعصب للهوية والانتماء التي لا تليها إلا عواقب مدمرة مثل الحروب.

ويعتقد سير، في هذا المقام، أن موقعاً مثل "فايسبوك"، يوزع الفاعلية بالتساوي على الناس ويمنحهم أصواتاً ليعبروا عن أنفسهم فيما يشبه إنتاج روابط اجتماعية جديدة لم تنجح الأجيال السابقة في إنتاجها، وهو ما يرى فيه أساساً لعقد اجتماعي جديد سيكون نواة لحياة الأجيال المقبلة. وليس "فايسبوك"، في هذا السياق، هو الممدوح الوحيد، إذ أن سير يتوقف لدى هاري بوتر ومحطات القطارات المزدحمة وطرق التعليم الجديدة على الإنترنت والمستشفيات، كثيمات لحياتنا المعاصرة تساهم، مع ثيمات أخرى كثيرة، في تشكيل هذا العقد الجديد.

لكن، هل تكفي الرؤية الإيجابية، التي عُرف بها "الفيلسوف المتفائل"، والنية الطيبة، لإنتاج خطاب فلسفي وأفكار جديدة؟ بالتأكيد لا، وهذا ما توقف لديه عدد ممن نقدوا إصدار سير الأخير في صحف ودوريات فرنسية. إذ أن كتاب سير، الذي ينظر إليه بوصفه "متأخراً" فيه سياقه، سياق الإعلان عن عصر إنساني جديد، لا يقدم حلولاً سحرية للإشكالات التي يناقشها. إنه يمتدح، مثلاً، سهولة التعلّم على الإنترنت والاطلاع على كل شيء بشكل فردي، ولا يقول إن كان ذلك بديلاً فعلياً للتعليم التقليدي أم لا.

كما أن اللاأكاديمية في كتيّب سير هذا، والرومانسية والترميزية مفرطة الحضور على حساب الأكاديمية والتحليل (المنهجي أو غير المنهجي)، تقلل من جدية الكتاب الذي لا ينزع إلى أن يكون أكثر من مانفيستو شخصي من فيلسوف له اسمه إزاء حدث يرى أن جليل في تاريخ البشرية.

ترجمة كتاب ميشيل سير العربية، التي وضعها عبد الرحمن بوعلي، وهو أستاذ في جامعة قطر، بدت رشيقة في أماكن وهشة في أماكن أخرى. إذ أن المترجم حاول، كما يبدو، أن يكون أميناً للنص الأصلي، ما آل بنسخته العربية إلى ضعف ظاهر في كثير من المواضع التي نقع فيها على جمل وتعابير ركيكة تحتاج ذكاء القارئ وصبره لتقويمها وتقويم معناها. كما يسجل على الترجمة رسمها اسم الفيلسوف الفرنسي على الغلاف، هكذا: "ميشيل سار"، بألف دخيلة وبديلة للياء في اسمه الذي يُنطق "سير" في الفرنسية، كما هو حال نطق كلمة "طير" في غالبية اللهجات العامية العربية.

دلالات

المساهمون