اكسر العصا على رأسي يا أستاذ

اكسر العصا على رأسي يا أستاذ

24 يناير 2017
+ الخط -

منذ صغري وأنا أراقب جاري الأستاذ عبد السلام شكير، أول صحافي حقيقي يظهر في حي القطانة، أحد أعرق أحياء مدينة الرمادي، عاصمة الأنبار غربي العراق.

أراقب بشغف كل تحركاته، مشيته، أناقة ملبسه وعطره المميز وحتى تسريحة شعره. احترام الناس له وحفاوتهم به حينما يسلم عليهم، إذ يقفون احترامًا لدى مروره. كلمات والدي مع رجال الحي حينما يجتمعون في دكانه القديم، وهم يتفاخرون بأن ابنهم، ابن الحي، عبد السلام أفندي، أصبح صحافياً.


كل هذه الامتيازات جعلتني أقف وسط الصف في مدرسة العزة الابتدائية وأصيح بأعلى صوتي، سأصبح صحافياً. كلما سألني أستاذ فيصل ماذا تحب أن تكون حينما تكبر؟


وكنت مع كل إجابة آخذ نصيبي ثلاث عصي مع ثلاث كلمات، "اجلس اجلس اجلس"، كل هذا كان في عام 1977. ثم كبرت وكبرت معي مصائب الحروب، أولاها الحرب العراقية الإيرانية، وبعدها حرب الخليج، تبعها حصار اعتصر الأحلام، ليكون ختامها احتلال العراق عام 2003.

كنت أمازح أصحابي وأقول لهم "وكأن الحروب دواء كتبه الطبيب للعراقيين كل ست ساعات". خمس سنوات كانت خدمتي الإلزامية في الجيش العراقي، تبعتها خدمة الاحتياط لأكثر من مرة، مخيلتي لم تعد تستوعب المزيد. وهناك ذكريات مؤلمة تخللت تلك الحروب.


لم يعد الإحساس ضرورياً، بل وحتى الألم والجروح باتت أمراً معتادًا، تعلمنا بعد كل قصف أو تفجير، أن نحمل الجرحى والشهداء، منهم أطفال ومنهم أمهات. وربما نصحوا باكراً لنجد جثث طلبة أو موظفين، قتلهم القنص الأميركي.


تجدد حلمي بعد مرور أكثر من ربع قرن، حينما طلب مني صديقي العمل مع وكالة أخبار محلية، كنت أصور وأكتب أهم الأحداث، وتحقق الحلم بعد العمل مع القنوات الفضائية والصحف المحلية.


أحببت عملي، وكنت فعلاً أحمل رسالة إنسانية، أظهر خلالها وحشية الاحتلال الأميركي، وكذلك القوات الحكومية، التي شكلها الاحتلال نفسه، وكانت طائفية بامتياز في التعامل مع أهل جلدتي، الذين امتلأت بهم المعتقلات، من أجل لا شيء.

ورغم تعرضي للضرب والاعتقال عدة مرات من قبل الأميركيين والقوات المحلية التي صنعوها من أجلنا، إلا أنني كنت أنجو منهم بفضل الله الذي نجاني من تسع إصابات قاتلة بين الرصاص وشظايا التفجيرات، في تلك المرحلة بالذات.


كنت قد بلغت مرحلة من اليأس بات عندي الموت والحياة سيان، لا أكترث لأي منهما، لأنني كنت ميتاً يمشي على قدميه. في تلك الفترة ظهرت أحزاب وكتل سياسية كثيرة، وظهر صحافيون وإعلاميون أكثر، وتعددت وسائل استخدام الإعلاميين والصحافيين بحسب الاتجاهات السياسية، وكذلك الدينية، وكأنهم أحجار تتنقل على رقعة شطرنج، والجميع ينادي بالتهميش والطائفية.



بل ظهر بعضهم أكثر تشدداً من رجال الدين، واحتدم الحوار الطائفي، وصار للمليشيات الدور البارز في تصفية الكثير من الصحافيين حتى وإن كانوا محايدين، أو أن آراءهم لا تؤيد هذا أو ذلك من الأحزاب.


هربت إلى خارج العراق، ووجدت الكثيرين من أمثالي، وقد انتشروا في بقاع الأرض بحثًا عن الأمان المفقود، وبالمقابل خسرنا الكثير من الزملاء والأساتذة، الذين فضلوا البقاء داخل العراق.


حصيلة قتلى الصحافيين والإعلاميين منذ عام 2003 – 2016، بلغت 426 شهيداً عدا المعتقلين والمخطوفين والمختفين والحبل على الجرار، فساد مستشر، مدن مدمرة، مشردون، لاجئون في قلوبهم حسرات، مخيمات تحمل كل خيمة منها آلاف القصص، وصحافيون في المزاد ،كلٌ وله سعر، مع احترامي للشرفاء الذين ما زالوا يناضلون.


بعد كل ما عانيته وأعانيه أقول لأبي رحمه الله، أنت وكبار المحلة كبّرتم حب الصحافة برأسي، ويا أستاذ فيصل، لو كسرت العصا على رأسي في ذلك الحين، لكرهت الصحافة، سامحكم ورحمكم الله، وأقول لجاري وأستاذي الصحافي الكبير عبد السلام شكير، سامحك الله، كنت صحافيًا مثاليًا فأوقعتني في حب المهنة!

20C127EC-6E06-4C03-A37C-B5DB5D38EE63
20C127EC-6E06-4C03-A37C-B5DB5D38EE63
قاسم العلي

صحافي عربي أولاً، وعراقي ثانياً. عمل في وسائل إعلام عربية وعراقية مختلفة. يقول: "بداية التغير الحقيقة عندما تغلق أسواق بيع الأقلام والذمم".

قاسم العلي