اقتلوهم يرحمكم الله

اقتلوهم يرحمكم الله

11 ابريل 2015

لاجئون فلسطينيون من قرى الجليل (11مايو/1948/أونروا)

+ الخط -

الفلسطينيون محاصرون في غزة، الفلسطينيون يُقتلون في القدس، الفلسطينيون يقتلون في العراق، الفلسطينيون يقتلون في سورية. هذه هي الصورة العبثية والمأساوية التي يعج بها المشهد الفلسطيني، فمنذ فجر التاريخ، حتى يومنا هذا، ما سالت دماء شعب وتفرقت بهم السبل، كما حدث مع شعب فلسطين. أية خطيئة التي ارتكبها ذلك الشعب، حتى يُحارب في شتي بقاع الأرض، فما أن يهرب من الحرب في دولة ما حتى تغتاله حرب جديدة بادعاءات جديدة، وهو، بالتأكيد، الضحية الأولى، فلا دولة تحميه ولا مؤسسات تدافع عنه، ولا حتى هيئات حقوقية تُكسبه شرعية الحق في الحياة، فهو، في أسوأ الأحوال، مجرد لاجئ رمت به الأقدار في هذه الدولة، أو تلك، وأصبح يتجرع مرارة كأس اللجوء، وعينه وقلبه معلقان على حائط الانتظار ليوم العودة إلى وطنه المحتل. ولكن، أي عودة تلك التي يُمني نفسه بها في ظل انقسامات عربيةٍ، طالت الكبير والصغير، وأكلت معها الأخضر واليابس، ناهيك عن الانقسامات الفلسطينية التي قسمت ظهر الحلم الفلسطيني، وأصبحنا نلهث خلف حلم الوحدة الذي أضحى رهينة بأيدي القوى الكبرى.

أبناء الشتات الفلسطيني، سواء كانوا في مخيمات أو غيرها، لم يعيشوا حياة الجيتو، ولم يبنوا لأنفسهم ديسابورات وهمية، وإنما انغمسوا في الأوطان التي نشأوا وولدوا فيها، وترعرعت أرواحهم بهوية الوطن المعاش مع الوطن الحلم، حتى غدوا جزءاً لا يتجزأ للوعي الجمعي من الشعب الذي يعيشون بين ظهرانيه، فهذا فلسطيني/أردني، وآخر فلسطيني/سوري، وذاك فلسطيني/ لبناني.... إلخ.

تكاثرت الأوجاع على الفلسطينيين، هذه الأيام، حيث كانت الأشد قسوة وضراوة مما مضى في حيواتهم، خلال سنوات معاناتهم، منذ نكبتهم الأولى عام 1948، مروراً بنكباتهم المتتالية، والتي كان جديدها نكبة مخيم اليرموك، وإذا ذكرتَ معاناة الفلسطينيين في سورية، فإنك ستذكر، بطبيعة الحال، معاناة السوريين أنفسهم، فلا يمكن الفصل بين حق الجميع في الحياة ووقف آلة الحرب هناك. ولكن السؤال الأولي: إذا خرج السوريون وأصبحوا لاجئين في بلاد أخرى، فما هو وضع اللاجئ الفلسطيني الذي يخرج من سورية؟، ماذا سيكون وضعه، إذا فقد بيته في المخيم، ومن ثم فقد المخيم، وحدة إنسانية وهوياتية سياسية، وكذلك اجتماعية وثقافية أيضاً؟ أين سيذهب لاجئو "اليرموك"، ومن سيتحمل مسؤولياتهم السياسية والإنسانية، وهل هناك بدائل مطروحة، إذا ما تم القضاء على مخيم اليرموك، وهو فعلياً في طريقه للتدمير الكلي؟ّ أسئلة كثيرة من دون الاهتداء إلى إجاباتٍ، تنقذ ما يمكن إنقاذه من أرواح الأبرياء.

أكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون في منافي الأرض، تأكل أرواحهم الغربة، ولا يُسمح لهم بالعودة إلى وطنهم، سوى بتصريح للزيارة، يتم استخراجه من دولة الاحتلال الإسرائيلي. المشهد الفلسطيني سوريالي عموماً إلى أبعد الحدود، لكن هذه السوريالية تأخذ البعد المأساوي الجنائزي، إذا ما تطرقنا، في هذا المشهد، للحديث عن اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات عامة، ومخيم اليرموك خصوصاً. أي عبثية تلك التي يمكن أن تحكم أخلاقيات العالم، وهناك أكثر من مائتي ألف لاجيء فلسطيني تم تشرديهم من مخيم اليرموك الذي يقبع، منذ أكثر من عامين، تحت الحصار، فلا غذاء ولا ماء ولا كهرباء.

مساحات الموت هناك أكبر من أن يسردها قلم، ومساحات الوعي بالمأساة لا يمكن أن تكفيها الكلمات. حالة الموت اليومي التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في مخيم اليرموك، من دون أدنى تحرك، لأي مؤسسة أممية أو دولية، أو حتى عربية، تجعلنا نشعر بالاشمئزاز من إنسانيتنا. اعتدنا سيرة الموت والدم والدمار مفردات يومية في حياتنا، من دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن خيارات، حتى لو كانت بسيطة، بيد أنها يمكن أن تحرك المياة الراكدة لذلك الصمت القاتل الذي يساهم في اغتيال أرواح الأبرياء من أبناء هذا المخيم المنكوب، فحالة الاشتباك الإنساني، بما يحرك المياه الراكدة تجاه هذه الفئة المستضعفة، إنسانيا وسياسياً، لا يمكن السكوت عليها بأي حال.

وتحيلنا عبثية الصمت المطبق من كل الأطراف إلى حالة من الاشتباك المقرون بأسئلة بديهية حول ماهيتنا الإنسانية، فلسطينيين بصورة أولية، ولاجئين بشكل استثنائي، وتنكّر الجميع من حولنا لهذه الماهية. كشفت مأساة مخيم اليرموك لنا، بصراحة لا نظير لها، الوجه الشوفيني الذي يتعامل به العالم مع قضيتنا الوطنية بشكل عام، وقضية اللاجئين الفلسطينيين خصوصاً، ولم تنس في خضم مساحة المكاشفة أن تضع قضيتنا في سلة المهملات العربية والفلسطينية، فلا صوت للمؤسسات الرسمية العربية إزاء ما يحدث، ولا تحرك يذكر من منظمة التحرير التي تعتبر نفسها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. ليست نكبة مخيم اليرموك الأولى للاجئين الفلسطينيين، فالمتتبع للخريطة السياسية العربية، بشكل عام، ولأوضاع اللاجئين الفلسطنيين في البلاد العربية خصوصاً، يتبين، بسهولة، أنهم دائماً الحلقة الأضعف التي يتم التضحية بها، في ظل تشظي الوضع العربي العام واتساع دائرة الانقسام في دول عديدة، طالتها الأيدي الآثمة من العنفيين والتكفيريين، وغياب مركزية القضية الفلسطينية عن الأجنده العربية السياسية.

إجابة مخيم اليرموك المفتاحية سهلة، لكنها عصية على الوضع العربي الراهن، مثل كل القضايا الفلسطينية المعلقة في ذيل أجندة الأولويات العربية الراهنة، ربما يكون الحل الذي أطرحه أكثر مأساوية لنا جميعاً، فبدلاً من أن تقتلوا أرواحنا، يوماً بعد يوم، وبين حين وآخر، أمام مشاهد الموت العبثي في اليرموك، حيث ننتظر بين حين وآخر فجيعة لأهلنا هنا أو هناك، اقتلونا جميعاً، حتى تستريحوا منا وتريحونا. هذا ما صرخت به سيدة فلسطينية أمام الكاميرات في مخيم اليرموك (قتل جميع الفلسطينيين حتى لا يبكي أحد على أحد). وهذا ليس جنوناً، يا سادة، فما تفعلوه معنا قمة الجنون. موتنا المجاني وصمتكم عليه هو الذي أوصلنا إلى هذا الحد في أن نطلب الموت، حتى لا تأتينا نكبة جديدة، نكون نحن رحى رماحها، وندفع فيها أرواحنا وأرواح ذوينا، ثمنا لوجودنا في هذا البلد أو ذاك. لا أستطيع أن أصمت أمام كل هذه الدماء، ولا أستطيع أن أبكي، بعد أن جفت دموعي، وأضحت بلا فائدة، فأخبروني ماذا يمكن أن أفعل، من أجل هؤلاء الأبرياء. أخبروني، قبل أن يقتل صمتنا ما بقي منهم تحت مقصلة القتل وسندان الصمت.

avata
زينات أبو شاويش

كاتبة وإعلامية وباحثة فلسطينية، دكتوراه في الإعلام والتسويق، مختصة بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، لها عدة كتب وأبحاث.