استراتيجية التنمية الوطنية الثانية وتحدّي التنويع الاقتصادي في قطر

استراتيجية التنمية الوطنية الثانية وتحدّي التنويع الاقتصادي في قطر

23 يوليو 2018

من مطار حمد الدولي بالدوحة في 7/3/2018 (فرانس برس)

+ الخط -
لأن التقدم الاقتصادي والاجتماعي لم يعد يخضع للتطور التلقائي، بل أصبح يعتمد على خطط استراتيجية طويلة الأمد، ذات أهداف مرسومة مسبقًا، عمادها الرؤية الواضحة والتخطيط السليم، فقد أصدرت دولة قطر سنة 2008 رؤيتها الوطنية 2030، وضعت من خلالها الخطوط العامة لتوجهاتها التنموية، ثم أتبعتها باستراتيجية تنميتها الوطنية الأولى (2011 – 2016)، ثم استراتيجية تنميتها الوطنية الثانية (2018 – 2022).
تعد وثيقة الاستراتيجية الثانية، من حيث الشكل والتنظيم، وثيقة يحكمها منهج واضح في معالجة موضوعاتها، وقد اتبعت نسقًا محدّدًا في تناول كل جزء وكل فصل فيها. وقد قسمت الوثيقة إلى سبعة أجزاءٍ رئيسة، هي:
• الأول، تناول التوجه نحو عام 2022 حول رؤية قطر الوطنية، ودروس استراتيجية قطر
الأولى 2011 – 2016، والتحديات التنموية، وآفاق المستقبل.
• الثاني، تناول التطوير المؤسسي، وتقديم الخدمات والإدارة المالية.
• الثالث، عالج استدامة الازدهار الاقتصادي وتطوير البنية التحتية الاقتصادية، والتنويع الاقتصادي، وتنمية القطاع الخاص، وإدارة الموارد البشرية.
• الرابع، خصص لتعزيز التنمية البشرية وتنمية نظام رعاية صحية، وجودة التعليم والتدريب، وقوة عمل كفوءة.
• الخامس، كان حول التنمية الاجتماعية والحماية الاجتماعية، والأمن والسلامة العامة، والإثراء الثقافي والتميز الرياضي، وتنمية شراكات عالمية من أجل التنمية.
• السادس، حول تنمية مستدامة تحافظ على البيئة.
• السابع، حول إدارة أداء استراتيجية التنمية الوطنية الثانية.
وقسم كل جزء إلى فصول، بحسب تقسيم القطاعات الذي اعتمدته الاستراتيجية. ويبدأ كل فصل بمقدمةٍ، يتم فيها إبراز ما ورد في رؤية قطر الوطنية 2030، ثم التقدّم المنجز في الاستراتيجية الوطنية الأولى (2011 – 2016)، ثم توجه الاستراتيجية الوطنية الثانية (2018 – 2022) بما يخص القطاع، تليه التحديات التي تواجه استراتيجية القطاع خلال فترة الاستراتيجية الثانية، ثم النتائج المستهدفة والأهداف في كل قطاع. وينتهي الفصل بملحقٍ على شكل مصفوفةٍ تكثف الأهداف الرئيسة والمساعدة والأهداف المحدّدة والمشروعات والبرامج التي تحقق الأهداف في الواقع، ويسمي الجهات الحكومية التي يقع عليها عبء إدارة التنفيذ.

التحدّيات العريضة
حددت الاستراتيجية الثانية مجموعة من التحديات العامة التي تواجه تنفيذها:
1- الموازنة بين التحديث والحفاظ على التقاليد، وهي موازنة ليست سهلةً في عالم يتسم بالتحول نحو العولمة وزيادة التفاعل بين الشعوب، وخصوصا أن أكثر من 85% من سكان قطر هم عمالة وافدة، تحمل في معظمها ثقافاتٍ أخرى، بعيدة عن ثقافة قطر التقليدية.
2- الموازنة بين تلبية احتياجات الجيل الحالي، من دون المساس بحقوق الأجيال المقبلة، وقدرتها على تلبية احتياجاتها. إذ تلقي الحياة الحديثة وإغراءاتها بضغوطٍ كبيرةٍ تنمي نزعة الاستهلاك التي تهدر موارد كثيرة على حساب الأجيال المقبلة.
3- التوازن بين النمو المستهدف والتوسع غير المسيطر عليه، وقد حرّضت الزيادات في أسعار النفط والغاز وتعاظم إيراداته الرغبة في تحقيق مستوى حياةٍ أعلى، وتنفيذ أعداد كبيرة من المشاريع وتنمية النزعة الاستهلاكية.
4- التوازن بين مسار التنمية ونمطها وبين حجم ونوعية العمالة الوافدة المستهدفة، فتوسع مشاريع البنية التحتية خلال العقد المنصرم أدى إلى تدفق عمالة وافدة غير مؤهلة أو متوسطة التأهيل، وخصوصا لقطاع المقاولات. وهذا لا يخدم التنويع الاقتصادي، لأن قطر تحتاج تنمية قطاعاتٍ تعتمد كثافة رأس المال، وقوة عمل مؤهلة.
5- التوازن بين متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومتطلبات حماية البيئة. وقد أدت زيادة عدد المشاريع وعدد سكان قطر السريعة إلى تشكيل ضغوطٍ أكبر على البيئة.
لمواجهة هذه التحديات، اعتمدت الاستراتيجية ست أولويات لتمنحها أهمية خاصة: استدامة الازدهار الاقتصادي، تطوير البنية التحتية، رفع كفاءة الموارد الطبيعية، تنويع الاقتصاد الوطني، تفعيل دور القطاع الخاص، تعزيز التنمية البشرية، وخصوصا الصحة والتعليم وحماية البيئة. وقد اعتمدت الاستراتيجية ستة قطاعات اقتصادية منحتها الأولوية: الصناعات التحويلية، والخدمات المالية، والنشاطات الاحترافية والعلمية، وقطاع المعلومات والاتصالات، بالإضافة إلى قطاعي السياحة والخدمات اللوجستية.
وإذا كان رسم الخطط أمرا سهلا، فتطبيقها على أرض الواقع دونه صعوبات جمّة. ويتطلب تطبيق هذه العناصر تطوير ثقافة التخطيط والعمل والإنجاز، كما أن توفير المال اللازم لتنفيذها يتطلب تغييرًا في الثقافة الاستهلاكية، وفي التعامل مع الثروة.
تضمنت الاستراتيجية سيناريو وحيدا، هو سيناريو خط الأساس (2018 – 2022)، وقد بني السيناريو على فرضية "بقاء أسعار النفط والغاز عند المستويات المحققة خلال شهر يناير/ كانون الثاني 2017، مع استمرار قطر بإجراءات الترشيد وخفض الإنفاق الجاري في المالية العامة حتى يتحقق توازن الرصيد المالي، ويتكيف مع مستويات أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية. ويُتوقع خبراء صندوق النقد الدولي في بيانهم أن يبلغ معدل نمو إجمالي الناتج المحلي الإسمي لعام 2018 نحو 2.6%. بينما يبلغ متوسط النمو في الفترة 2019 - 2023 حوالي 2.7%.

اقتصاد قطر والتنمية 
يملك اقتصاد قطر نقاط قوة، فهو كبير قياسًا بعدد سكان الدولة القليل، فقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي سنة 2014 نحو 205.7 مليارات دولار، وتراجع سنة 2016 ليصبح 152 مليار دولار بسبب تراجع أسعار النفط منذ صيف 2014. ويزيد متوسط دخل الفرد فيها عن 58 ألف دولار، أي هي في شريحة الدخل الأعلى في العالم. ويعد قطاع النفط والغاز القطاع الأكبر. ولكون الجزء الأعظم من سكانها يتكوّن من قوة عمل وافدة لا تصطحب عائلاتها، فإن 84% من سكانها هم في سن العمل (15 – 65 عاما)، وهذه ميزة كبيرة للاقتصاد القطري، وقد أقامت بنية تحتية متطورة، ويجري حاليا تنفيذ برنامج للبنية التحتية بقيمة مائتي مليار دولار (121% من إجمالي الناتج المحلي المحقق في 2017)، من أجل تنويع النشاط الاقتصادي، والاستعداد لاستضافة كأس العالم في العام 2022. كما حققت تقدمًا كبيرًا في تحسين التنمية البشرية، واحتلت قطر سنة 2016 المرتبة 33 عالميًا، وفق مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، وراكمت على مدى عقود فائضًا مالياً كبيرًا، استثمرته في أصول وشركات عالمية كبرى، وأقامت شبكة علاقات دولية واسعة في العالم، وقدمت مساعدات إغاثية وتنموية لعدد كبير من الدول الفقيرة، أسست لها صلات سياسية قوية، كما كرّست دورها وسيطا فاعلا في النزاعات الدولية.
من جانب آخر، قطر بلد صغير، يتكون من شبه جزيرة صحراوية وأراض زراعية محدودة لا تزيد عن 6% فقط من مساحتها الكلية، وهي فقيرة بمصادر المياه الطبيعية، وبالموارد الطبيعية، عدا الموارد الأحفورية. ولا يتجاوز عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، و95% من قوة عملها هي عمالة وافدة، ويعتمد قطاعها الخاص على مشاريع الدولة ومشترياتها بالدرجة الأولى، ونمت لديها نزعة استهلاكية على الصعيدين الحكومي والخاص، وما زال مناخ الأعمال والاستثمار فيها غير جذّاب، فقد احتلت المرتبة 83 في تقرير البنك الدولي لعام 2018 حول سهولة ممارسة الأعمال من بين 190 بلدا شملها التقرير.
تمويل استراتيجية التنمية
لا توجد مخاطر تواجه تمويل الاستراتيجية الثانية، إذ تتوقع الاستراتيجية بقاء أسعار النفط والغاز عند المستويات المحققة خلال شهر يناير/ كانون الثاني 2017 إلى أمد غير قصير.
لكن قد يختلف الأمر على المدى الطويل، بسبب منافسة مصادر الطاقات المتجدّدة، أو مصادر النفط والغاز الرملي والصخري الذي سيضغط على الأسعار من جهة، مع ارتفاع تكاليف الإنتاج من جهة أخرى، ما سيقلص الهامش الكبير الحالي، وسيدفع إيرادات النفط والغاز نحو الهبوط. ويمكن أن نتصور أثر ذلك، إذا عرفنا حجم الدور الذي يلعبه هذا القطاع اليوم في الاقتصاد القطري، إذ يشكل نحو نصف الناتج المحلي، ونحو 90% من إجمالي الصادرات السلعية، ونحو 82.4% من الإيرادات العامة للدولة، وهو عرضةٌ لتقلبات أسعار النفط في السوق العالمية. مثلا بعد ارتفاع كبير على مدى سنوات 2009 – 2014، تدهورت أسعاره منذ صيف 2014، وبلغ انخفاضها عام 2015 ليمثل 72% من متوسط الأسعار السائدة خلال الفترة 2009 – 2014، وكان لهذا التدهور أثره على استقرار المالية العامة، وعلى البرامج الاجتماعية السخية، وعلى معدل الادخار الوطني. هذا يجعل قطر بحاجة لتنمية موارد أخرى من خارج قطاع الهايدروكربون، أي بحاجة للتنويع الاقتصادي.

تحدي التنويع الاقتصادي
على الرغم من الحديث عن التنويع الاقتصادي، فإن مختلف دول مجلس التعاون لم تقطع شوطًا كبيرًا في هذا المضمار. كما لم يأخذ التنويع الاقتصادي المساحة الكافية في الاستراتيجية الثانية، فقد استأثرت القطاعات المستهلكة للدخل معظم مساحة وثيقة الاستراتيجية الثانية. وهذا يعكس الاطمئنان لاستمرار تدفق موارد النفط للإنفاق على بقية القطاعات خلال فترة الاستراتيجية.
ركزت الاستراتيجية الثانية على تطوير مناخ الاستثمار، وتحرير الاستثمار الأجنبي، وتنمية دور القطاع الخاص، عوامل محفزة للتنمية، وحددت ستة قطاعات، ومنحتها الأولوية في التحفيز، ولكن هذا شرط لازم غير كاف. ولا بد من تحديد ماذا تعني "الأولوية" في التطبيق العملي، وما هي المزايا بالتحديد التي تستهدف تنمية هذه القطاعات والاستثمار فيها. كما تحتاج الاستراتيجية لتحديد قطاعات فرعية بعينها، ضمن القطاعات الستة العريضة، تتوجه نحوها بسياسات ومزايا محدّدة تحفز تنميتها، ويكفي قطر أن تتميز بعدد قليل من القطاعات السلعية والخدمية كثيفة رأس المال، وكثيفة المعرفة وكثيفة العمالة المؤهلة، وخصوصا في قطاعات خارج الهايدروكربونية، وهو التوجه الذي اعتمدته الاستراتيجية الثانية.
نجاحات قطر اليوم قائمة على وفرة موارد النفط والغاز، وحتى تضمن مستقبلها، يجب أن تنمي قطاعات اقتصادية أخرى، لتحل إيراداتها محل إيرادات النفط والغاز، عندما تبدأ الأخيرة بالتراجع. ويمكن على المديين، القصير والمتوسط، التركيز على الصناعات البتروكيميائية، ثم على الصناعات القائمة على منتجات الصناعات البتروكيميائية، ما يشكل سلسلة من القيم المضافة المحلية إلى جانب قطاعات أخرى محدّدة، بالإضافة إلى إيرادات الاستثمارات الخارجية للدولة، لتشكل حزمة من الإيرادات. ولكن لا يمكن التعويل فقط على تنويع الاستثمارات الخارجية بديلا عن التنويع الاقتصادي، إذ اعتبرت الاستراتيجية الثانية هذا التوجه "قاصرًا وغير استراتيجي، كونه يتضمن درجة عالية من المخاطر". ويمكن استعمال
الاستثمارات في الخارج، لتوطين تصنيع بعض الأجزاء في قطر، إذا كانت الكلفة مناسبةً، لا تزيد عن أماكن التصنيع الأخرى.
وتملك قطر الأموال الكافية، لكنها لا تملك قوة العمل الكافية لتحقيق تنمية مستدامة، بسبب محدودية عدد سكانها الأصليين، وهي تستقدم عمالة أجنبية بأعدادٍ تفوق عدد سكانها مراتٍ. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من أن الاستراتيجية تتجه إلى استقدام العمالة المؤهلة، واستقطاب الخبرات التي تناسب التنويع الاقتصادي، غير أنها لم تتضمن سياساتٍ محدّدة لتحقيق هذا التوجه، ولا بد من البحث عن بدائل، لتسريع زيادة عدد السكان، مثل دراسة منح الجنسية لأبناء المرأة القطرية المتزوجة من غير قطري، أو منحها لمن ولدوا في قطر وبلغوا الرشد فيها، وتسريع تنفيذ ما أعلن عنه من قبل، لمنح إقامات دائمة لأصحاب الاختصاصات، وغيرها من أفكار.
وتبقى الخطوة الأصعب في التنويع الاقتصادي إيجاد الأسواق للمنتجات الجديدة، فمن السهل لمن يمتلك المال أن يقيم المنشآت الصناعية والخدمية، وأن يستقدم قوة العمل المؤهلة ويبدأ الإنتاج، ولكن المشكلة في إيجاد الأسواق لأي منتجات، عدا النفط والغاز، في عالم يشهد حمّى منافسة عالمية مفتوحة، وسوق قطر الداخلي صغير، ولا يمكن التعويل عليه، وكل هذا يبرز أهمية تطوير الشراكات الاقتصادية وتطوير علاقات القطاع الخاص بالأسواق الدولية. وقد كانت الفرصة أمام مجلس التعاون الخليجي أن يتوجه إلى تكوين سوق واحدة وعملة واحدة وأنظمة اقتصادية واحدة، وتشكل منه سوق واحدة واسعة، وتجعله قطبًا قويًا جاذبًا للاستثمارات الدولية، لكن قوى حاكمة في هذا المجلس تريد أن تتجه به عكس ذلك. وهذا يضع على عاتق قطر بذل جهود إضافية لتنمية شراكات إقليمية، مثل تركيا، أو دولية، مثل الهند أو الصين، خصوصا، التي تتجه بمشروعها الكبير الحزام والطريق لتنمية شراكات دولية.