العالم الافتراضي القادم

العالم الافتراضي القادم

17 مايو 2020
+ الخط -
تكمن جذور العالم الافتراضي الذي نعرفه اليوم في عالم الأحلام والتخيلات البشرية التي تخلق صوراً ومشاعر تشكل جزءاً من وجدان البشر وإبداعاتهم، كما في حكايات الأطفال، وعوالم ألف ليلة وليلة، وقصص الخيال العلمي، وتصور وجود عوالم أخرى تفنن البشر في وصفها والعيش المتخيل فيها. 
مع اختراع السينما أواخر القرن التاسع عشر، قفز العالم الافتراضي قفزة كبيرة، وتتالت القفزات مع اختراع التلفزيون وانتشاره بعد 1950، ثم انتشار الكومبيوتر الشخصي منذ سبعينيات القرن العشرين، ثم تعميم الإنترنت وتطبيقاته للاستهلاك التجاري، وإتاحته الواسعة في السوق بعد عام 1989، والتي تشمل مختلف مجالات حياتنا المعاصرة. وبعد اكتشاف المزايا الإضافية لهذا العالم، بعد التوسع الاضطراري في اللجوء إليه خلال فترة الحجْر الصحي بسبب وباء كورونا، يتوقع أن نشهد قفزة كبرى لهذا العالم.
اكتشفت الشركات التي كانت قد بدأت باعتماد "العمل عن بعد" على نحو جزئي، خلال فترة 
الحجْر، ممكنات أكبر لهذا الشكل، مما يوفر عليها مكان العمل وتكاليف المكاتب، ويوفر على المشتغل الانتقال، ويمنحه مرونة بقائه في البيت واستثمار أوقاته على نحو أفضل، وسنشهد توسع الشركات في العمل عن بعد. وسنشهد لجوء الحكومات لإنجاز أعمال أكثر عبر شبكة الإنترنت، ما يقلص الحاجة للموظفين الحكوميين، ويوفر المال على الخزينة العامة، كما يوفر الجهد والوقت على طالبي الخدمات، غير أن هذا يتطلب بنيةً إلكترونية متطوّرة، وقد بادرت بلدان كثيرة في العالم بتطبيق ما سميت "الحكومة الإلكترونية".
وبسبب الحجْر، استمرت الدورات التدريبية "أونلاين" في العالم الافتراضي، وسيأخذ أبعاداً أوسع مستقبلاً، إذ يوفر هذا الشكل في مكان التدريب ومستلزماته، كما يوفر الانتقال من مكان التدريب وإليه، سواء للمدرب أو المتدربين، ويوفر في وسائط النقل وفي ازدحام المدن. وتوسعت خلال فترة الاحتجاز اجتماعات إدارات الشركات والمسؤولين الحكوميين عبر الشبكة العنكبوتية، مثل الوزراء وحتى رؤساء الدول، وعلى الرغم من أنها جاءت بسبب ضرورات الحجر، لكن هذه الضرورة فتحت الباب لأن يكون لهذا النمط من الاجتماعات الرسمية دور أكبر لم يكن مألوفاً. ولجأت الجامعات إلى استمرار التعليم عن بعد، ولفت اللجوء الاضطراري للتعليم الافتراضي الانتباه إلى مزايا هذا النمط من التعليم، الذي كان قد بدأ من قبل، وتحديد مستلزمات تطويره والتوسع فيه. وحتى المدارس الافتراضية قد نراها قريباً، وخصوصاً لصفوف المستوى الثانوي، مثلاً تطور دور التعليم الرقمي الافتراضي للسوريين في بلدان لجوئهم نتيجة ظروفهم الضاغطة، ونشأت مشاريع عديدة للتعليم الافتراضي، وبدأت تلعب دوراً أكبر، ولكنه ما زال في حاجةٍ إلى الدعم والتطوير.
قبل سنوات دخلت خدمات الطبابة الافتراضية (virtual health acre) وانتشرت العيادات الافتراضية، كما شاع ما يسمى الطبابة عن بعد (Telemedicine). وعلى الرغم من أنها لم تتوسع كثيراً بعد، إلا أننا سنشهد نموها مستقبلاً، وحتى العمليات الجراحية يمكن أن يتوسع إسهام الأطباء فيها عن بعد، إما بمشاركتهم عبر دائرة إلكترونية مغلقة، أو حتى مساهمتهم في المعالجة، وحتى إجراء العمليات عبر رجل آلي يتم التحكّم فيه عن بعد. وبدأت تجارة التجزئة الإلكترونية (البقالة الإلكترونية) قبل أكثر من عقدين، ومضت في توسعها التدريجي، وقد شهدت قفزة كبيرة خلال فترة الحجْر. وكلنا نعرف شركة أمازون التي بدأت ببيع الكتب عبر الإنترنت، وأصبحت الآن تبيع كل شيء، كما أن اسم "علاء الدين"، وهو اسم لشركة صينية للتجارة الإلكترونية، قد أصبح اسماً رائجاً في العالم. وعلى الرغم من أن خدمات التوصيل القريب تتم فيزيائياً حتى الآن، فقد نشهد توسعاً لخدمات التوصيل عبر الطائرات الصغيرة المسيّرة عن بعد (الدرونز) والتي بدأت على نطاق محدود.
بعد أن يتاح للعائلات الخروج من البيوت، ستعود إلى تذكر مزايا البقاء في البيوت، فقد استغلت 
العائلات أو الأفراد فترة الحجْر فأصلحوا ما كان مهملاً في بيوتهم، واشتروا بعض التجهيزات التي أمنت لهم مكوثاً أكثر راحةً، وسيتوقع أن يحافظ الناس، بعد كورونا، على جزء من طقوس البقاء في البيوت مدة أطول من قبل، وأن يهتموا بالطبخ وتناول الطعام في المنزل. وسيكون للبقاء في المنزل وقتاً أطول تأثيره على قائمة استهلاك الأسر، إذ يتوقع ازدياد مستلزمات تجديد المنازل والأدوات المنزلية واللوازم المكتبية والألعاب الإلكترونية ومشاهدة المسلسلات والأفلام، وازدياد الطلب على منتجات الصحة والجمال.
سيغير العالم الافتراضي، في حال توسعه المتوقع، جوانب كثيرة في حياتنا، وقد نشهد نمو قطاعات وضمور قطاعات، ونمو شركات الإنترنت السريع وجيل الـ G5 وG6 وما يليهما، ونمو طرائق الدفع الإلكتروني ونمو الخدمات البنكية الافتراضية. وستتقلص حينها الحاجة للانتقال الفيزيائي للبشر، ما سيقلص الحاجة لوسائل النقل، وتقليص حجوم المدن الكبيرة، وتقليص الفوارق بين الريف والمدينة، وسيؤدي ذلك إلى توفير في استهلاك الطاقة، وتوفير في استهلاك المواد وانخفاض تلوث البيئة وتحسّن في المناخ.
ويتمثل التغيير الأكبر المتوقع في جعل الواقع الافتراضي يقترب من الواقع الحقيقي الذي نعيشه، بل ويتطابق معه، فنحن نعيش الواقع عبر إحساسه بدماغنا وإدراكه بعقولنا عبر صور ومؤثرات حسية نتلقاها عبر حواسّنا الخمس، لتتشكل في دماغنا شعوراً وإدراكاً، أي أن أجسادنا ليست سوى أدواتٍ لنقل ذاك الإحساس والإدراك، وتشكل الوعي وتشكل المشاعر مِنْ رضى وغضب، وفرح وحزن، وألم وسعادة، ذلك كله في أدمغتنا، وهي مادة شديدة التعقيد، وتتميز بمواصفات خاصة تجعل الأجسام حية.
تقدم لنا سينما الخيال العلمي أفكاراً كثيرةً لما يمكن أن يكون عليه عالمنا في المستقبل، مثل فيلم "ساروغيتس" (surrogates) الذي أطلقته هوليوود سنة 2009، ويقوم على فكرة صنع روبوت بشري يبقى مرتبطاً مع دماغ البشر، حيث يسيطر الدماغ على الروبوت، وتنتقل كل أحاسيس الروبوت وما يراه ويشعر به إلى الشخص الذي يتحكّم به، وكأنه يعيش الحالة نفسها التي يعيشها الروبوت. وتطلق المرأة العجوز في الفيلم روبوتاً بشكل امرأة في منتصف العمر لتلتقي بشاب وسيم مفتول العضلات، بينما يختار رجل مسن فتاة شابة.
غير أن قدرات "تكنولوجيا العالم الافتراضي" اليوم تجاوزت ما قدمه فيلم "ساروغيتس"، إذ عبر
"نظارات الواقع الافتراضي والمعزّز" و"الخلايا العصبية الإلكترونية"، إضافة إلى ما يعد به تطور العلم والتكنولوجيا مستقبلاً، يمكن للفرد أن يعيش اللحظات ذاتها والمشاعر ذاتها والإدراك ذاته، وكأنها حقيقة، كأن يجد نفسه على ضفاف بحيرة، أو وسط غابة، أو يهبط على القمر، أو بصحبة من يحب يفعل ما يحب. كل هذا وهو جالسٌ في مكانه الضيق، مستغنياً عن العالم الحقيقي كلياً، من دون حاجته للخروج والسفر والانتقال إلى المقاهي وأماكن الاصطياف أو غيرها، أو حتى الحاجة للجنس الآخر. إنه موسم هجرة العالم الواقعي، والانتقال إلى العالم الافتراضي والأصدقاء الافتراضيين والمجتمعات الافتراضية والمدن الافتراضية. وتلقى تكنولوجيا العالم الافتراضي اليوم اهتماماً كبيراً من شركات التكنولوجيا، مثل آبل، وآي بي إم، وغوغل، وحتى فيسبوك.
فلنتصور لو أن كلاً منا لديه جهاز للخلايا العصبية الإلكترونية، ويستطيع تحقيق هذه الهجرة إلى العالم الافتراضي بالبساطة التي نستعمل بها الهاتف النقال اليوم، فأي مجتمعٍ وأي إنسانٍ سنرى حينذاك؟!