ادعاءات هزيمة حرية التعبير

ادعاءات هزيمة حرية التعبير

25 مايو 2014

مسيرة ببرلين مناصرة لصحافيين معتقلين في مصر(فبراير 2014 Getty)

+ الخط -
جزء من العهد الذي قطعته ثورات الربيع العربي، بالإضافة إلى أهدافها، من أجل إشاعة الديموقراطية، وترسيخ قيم حقوق الإنسان بشكل عام، كان البحث عن حقوق الفرد في التعبير عن رأيه، وخلاص وسائل الإعلام وتحريرها، كأدوات للتعبير من قبضة الطغاة. بل جاءت الثورات نفسها تعبيراً بليغاً عن الخلاص من الخوف، وتأكيداً على إمكانية ممارسة الحق في التعبير عن رفض عهود حكم بظلاميتها. كاد الأمل يتلاشى في الوصول إلى حرية حقيقية، إذ سرعان ما صادرت أنظمة، بعد انقلابها على الديموقراطية، الحق في التعبير، كضربة وقائية، حتى لا يعلو صوت آخر فوق صوت الكبت.

جاء الربيع العربي ودوله، بلا استثناء، تمارس انتهاكات عديدة ضد حرية الرأي والتعبير. وعلى طول عهدها الاستبدادي، كان يتم التداخل بين الشأنين العام والخاص، فكانت الحكومات تلجأ إلى إغلاق الصحف وتهديد الصحافيين وتوقيفهم واعتقالهم ومحاكمتهم، بسبب كشفهم الحقائق، بالإضافة إلى تدجين وسائل الإعلام، وجعلها بوقاً يهتف بحياة أولئك الحكام.

ولمّا لم يعد في وسع تلك الدول وقوانينها العمل على تقييد حق مواطنيها في الحصول على المعلومات، ونشرها وتداولها، عبر الوسائل المختلفة، شرعت في إلقاء التهم "الجزافية"، ليتسنى لها حبس الصحافيين في جرائم الإعلام الملفقة، وهي تظن أنّها تحبس فضاءً واسعاً في زنازينها الضيقة. جاءت التهم الكذوبة، لتبرير الحبس تحت مسميات مطاطة عديدة، كما جاءت العقوبات مبالغاً فيها، وبشكل لا يتناسب مع التهمة الكاذبة في الأصل، وهدفها، بالطبع، ردع الصحافيين عن ممارسة مهنتهم بحرية وترهيبيهم. وهذا يوضح ثأرية الأحكام التي تهدف، في غالبها، إلى الانتقام والتشفّي.
ولعل استخدام عباراتٍ، مثل "الأمن الوطني" و"محاربة الإرهاب"، وتهم تخوينية لهؤلاء ودمغهم بالتخريب، ذرائع لتخويف الصحافيين، والذين يقومون بعملهم، هي بمثابة سيف يسلطه الحكام المستبدون على رقاب الصحافيين، لإسكاتهم وإخراس كل مَن تسوّل له نفسه التعبير عن رأيه.

بعدما بدأت مسيرة الديموقراطية في دول الربيع العربي، وسلكت خُطىً حثيثة نحو الحريات المدنية، والانتخابات التنافسية الشريفة، ثم مجيئها برؤساء شرعيين، اختارهم الشعب، كان أول ما تم، بعد تنفيذ الانقلابيين مخططهم بالانقلاب على الشرعية، هو تكميم الأفواه، لمعرفتهم الأكيدة أنّ حماية إنقاذهم المصطنع للشعب لا يتم إلا بالتحايل، واللجوء إلى خياراتٍ مبرراتها حماية الوضع الراهن.

تشكل حرية التعبير، في حد ذاتها، حقاً ديموقراطياً أساسياً، فليس غريباً أن تنعدم في ظل نظام غير ديموقراطي. وليس مدهشاً أن تكون حرية الصحافة والإعلام البند الأول الذي تحرص كل الحكومات الاستبدادية على تقييده. وإذا كانت هي وسيلة ضرورية لتوفير الحماية ضد إساءة استخدام السلطة، وكشف فساد الحكم والمسؤولين، فليس غريباً افتقادها في هذا الموضع.

تجلّت أهمية هذه النقطة، بوضوح كبير، في حبس المناوئين للانقلاب في مصر واعتقالهم، لمجرد تعبيرهم عن رأيهم. وتمادى الوضع، وشمل إعلاميين وصحافيين، وهم يؤدون واجبهم المهني بكل حياد. فلم يجرؤ النظام على محاكمة مراسل الجزيرة، عبد الله الشامي، بأي تهمة، غير تغطية أحداث وإجلاء المتظاهرين بعد الانقلاب، وكشف وجهه القبيح. لم تصدر النيابة العامة المصرية أي قرار بشأن الصحافي الشامي الذي اعتقل في 14 آب/ أغسطس الماضي، ودخل في إضراب عن الطعام في 21 يناير/ كانون الثاني، مواصلاً احتجاجه على اعتقاله من دون توجيه تهم له. وهي رسالة واضحة يضيفها الصحافي الشجاع بأنّه إذا كان في مقدور السلطات الحجر على حريته، وتكميم فمه، فإنّ وضعه الصحي الذي يتدهور يوماً بعد يوم ينطق بما منعوه من قوله.

هل هناك انتهاك أوضح من هذا لحقوق الإنسان، يتبدى فيها التجاهل لتوفير الرعاية الطبية المناسبة للصحافي المعتقل، وغيره ممّن لم تحط بهم الأخبار علماً، أو إنهاء اعتقاله غير المبرر، من دون توجيه تهمة له؟ مصيبة أن يدري المسؤولون، ويتعامون في عنجهية، عن أنّ استهداف جهات إعلامية بعينها، ومحاكمة أكثر من 20 صحافياً من شبكة الجزيرة وحدها، واعتقال آخرين من الوسيلة الإعلامية نفسها، من دون توجيه تهم، يكبّد مصر الآمنة إساءات تتم باسمها.

تظهر الحاجة، الآن، إلى إعلاميين بجرأة ثوار الربيع العربي، يعملون على كشف الانتهاكات للقائمين على السلطة. فمن غير تكميم الإعلام المناوئ، لن يكون في مقدور النظام الحالي الاستمرار، ومن غير قيود ثقيلة تكبّل الصحافة، لن يكون في مقدور أي ديكتاتور التربع على عرش بلاده رئيساً، ومن حوله إعلامه يطبّل له.
 
لقد أهدت شعوب الربيع العربي إلى نفسها هذا النصر، في ثياب الأزمة، بالبحث الدائم عن الحريات وحياة أفضل. ورغماً عن كل شيء، فإنّ أغلب الشعوب العربية يخالجها الشعور نفسه بنجاح الثورة، ومنها من تم تسليط ضوء الإعلام عليه، وهو يتحسّس كرسيه، فشمّر لمحاربته. نجحت الثورة، وسيفشل الانقلاب عبر استخدام هذا الكمّ الهائل من الأصفاد، في تكميم أصوات حرة، كما سيرتدّ حسيراً بعد اكتشافه أنّ زنازينه اعتقلت أجساداً، لكنها لم تحبس أرواحاً طليقة ما ملّت يوماً تحريك السكون.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.