إمبريالية الكتاب والفكرة

إمبريالية الكتاب والفكرة

10 مايو 2015
Getty
+ الخط -
هل كنا سمعنا بـ"نهاية تاريخ" فوكوياما أو "صراع حضارات" هانتنغتون وما فاق انتشاره ورواجه معهما منذ العقد الأخير في القرن العشرين لو كانت قد كتبت بالأوردو، أو المالاوية، أو الأمهرية، أو لو عاش مؤلفوها في الكونغو، أو تركمانستان، أو سورينام، وتحدثوا وكتبوا بلغاتها؟ وكذا هل كان العالم قد وصله ما كتب ابن رشد وابن خلدون لو قدر لهما أن يعيشا في ما كانه الكونغو، أو تركمانستان، أو سورينام، وكتبوا بلغاتها؟ تنتشر اللغة والثقافة وما تنتجان من أفكار وكتب على رافعة الفعالية الحضارية والقوة والنفوذ للحضارة المعنية، وتتداول الحضارات على امتلاك ناصية، أو إمبريالية، الثقافة حين يحين دور هذه أو تلك. لا نعرف مثلا إن كان ثمة كاتب عبقري يبدع في بقعة نائية من عالمنا بلغته المحلية التي لا تُترجم إلى "اللغات الحية"، ولا أحد يتابع أفكاره. لا نعرف أيضاً ما إن كانت هناك فكرة أو كتاب خارق للعادة نشر حديثا أو منشور قديما لكنه بعيد عن دائرة الضوء المُسيطر عليها من قبل اللغات والثقافات المتسيدة اليوم، لأن نعرف كيف يمكن أن يُزاحم كتاب أو فكرة يتبلوران بعيدا عن المساحات المُسيطر عليها ثقافيا بإمبرياليات وأفكار وإعلام الأنجلوفون أو الفرانكوفون أو الإسبانوفون. 

كأنه قانون مُستل من الفيزياء أن تترافق إمبريالية ثقافية ولغوية مع إمبرياليات الجيوش والنفوذ والأديان والاقتصاد والتمدد الجغرافي. فعلى روافع السيطرة اللغوية والانتشار والإعلام المُعولم والأكاديميات التي تدور في فلك اللغات السائدة تتقدم الكتب التي كُتبت بلغات المتروبول، وتصير مصدر الإنتاج الفكري "العالمي"، ويتهمش غيرها ما لم يركض إلى نفس الدوائر ويُنتج بنفس اللغات ووفق القواعد المرُسمة من قبل تلك الثقافات الظافرة. ليس هذا حصرا في إمبرياليات اليوم الغربية بل هو سمة لصيقة بكل إمبريالية أنتجتها البشرية في جهاتها الأربع. وهنا والآن، وكما هناك والأمس، يبقى سؤال الحضور والمنافسة من قبل أفكار وكتب "الهامش" صعبا وثقيلا وشبه يائس.

اليوم تبطش إمبريالية وسيادة الإنجليزية حتى بلغات المتروبول الأخرى كالفرنسية والإسبانية والألمانية، وفيه يصبح فضاء الأنلجوفون العنوان الأهم لإنتاج الكتب والأفكار. يبدو الأمر مضمار سباق غير عادل، مسارات العدائين فيه متفاوتة السهولة والعسر. المحظوظون القلة، التابعون لفضاء اللغة والثقافة الظافرة، يمتد أمامهم مسار ممهد، مفرودة على جانبيه عوامل الإسناد: إعلام يحتفي بإنتاجهم، سوق يلتهم ما يصدرون ويضاعف نشره وتوزيعه، جامعات ومراكز بحث تناقش أفكارهم وتستضيفهم. الأكثرية غير المحظوظة تمتد أمامها مسارات سباق تعج بالعقبات، أولها ضرورة أن الانتقال إلى الفضاء المتروبولي الثقافي والكتابة بلغته للظفر بالاهتمام. لكن، تتغرب الأفكار عن بيئتها الحضارية عندما تتقولب في لغات ثانية وتصبح علاقتها بالأصل واهية ومُتسمة بالحيرة والتوتر.

ليس القصد هنا التشاكي أو استدعاء مظلوميات والوقوف على أطلالها، ذلك أن الكل في الإمبرياليات التاريخية سواء، على اختلاف درجات البطش. لكن القصد تسجيل ملاحظة وشحذ التفكير فيها، مع الإبقاء على مساحة المشترك الإنساني التي تروض وروضت الإمبرياليات وأبقت في تلك المساحة ما أنتجته الثقافات عبر التاريخ أيا كانت لغاتها وأيا كانت أمدية مكوثها في الظل أو المركز: ففي ذلك المشترك العميق ما زلنا نستمتع بالكاما سوترا الهندية، ونقرأ بعدها طاغور، ونتعلم من صن تزو فن الحياة قبل فن الحرب، وتارة نتصفح ألف ليلة ليلة وأخرى الشاهنامة.

المساهمون