إعادة الإعمار كحدث مؤسِّس

إعادة الإعمار كحدث مؤسِّس

11 فبراير 2015
أطفال غزيون فوق ركام منزلهم (Getty)
+ الخط -

يمكن البدء عند أي حديث عن التحول الحضري الفلسطيني الجديد، من رام الله، كحالة مختلفة، لا يمكن عزلها عن التحولات التي عاشتها المدينة، أولاً كحالة خاصة، والتحولات الكبرى السياسية على المشروع الوطني الفلسطيني ثانياً، وما رافقها على أقل تقدير من تحول في الحياة الاجتماعية. ومع أنه لا يمكن الادعاء سريعاً أن ما حصل هو نتائج لأحداث أو تحولات حاسمة في تركيبة المجتمع والمشروع الفلسطينيين، إلا أن ثمة مجموعة من العناصر قد تحول هذا الإدعاء مشروعاً، أهمها خصوصية رام الله في مثل هذا السياق واختلافها عن ما حدث فعلياً في مدن فلسطينية أخرى، والتي لا يمكن تأويلها بمعزل عن وجود السلطة الفلسطينية، كمكان بديل عن القدس التي لم يستطع العائدون الوصول إليها، ما ساهم في تغيّرات صنعت المكان، برؤية حضرية جديدة حملها معهم العائدون، الذين أصبحوا مُلاّك رأس المال الأول، كما ترى ليزا تراكي، أستاذة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة بيرزيت، فسرّعت هذه الخصوصية في صناعة البنية الحضرية المعولمة في المدينة، وسرعت تحولها من مجتمع زراعي غير تقليدي، إلى مجتمع خدماتي بدون ملامح واضحة، فصار عدد المقاهي والمطاعم في المدينة، مثلاً، نسبة لعدد سكانها وسكان ريفها، يضاهي نسبتها في مدن سياحية عربية كبيرة. كما أوضح أحد بيانات وزارة السياحة قبل سنتين، حيث كان لكل أربعمئة شخص تقريباً مطعماً أو مقهى في المدينة، من دون وجود سياحة تقليدية، انحسرت لصالح سياحة أخرى غير واضحة، أسستها المنظمات غير الحكومية التي لا يمكن التغاضي عن دورها في كل ما سبق.

والخصوصية الأخرى التي نعني بها هنا، كانت في رام الله القديمة، قبل هذه التحولات جميعها، وبنيتها التحتية القديمة، التي ساهمت ضآلتها، كمكون من مكونات مدينة صغيرة، فتحت المجال للتغيير هذا أن يؤسس مدينة جديدة كاملة، بدون صعوبة تذكر في مواجهة البنية القديمة، كتلك الموجودة في مدن مثل نابلس مثلاً، فلم تكن مؤهلة لمقاومة أي مشروع حضري حديث.

ولعلّ من الممكن استخدام هذه الخصوصية كمنظور يمكن من خلاله رؤية وتخمين نتائج إعادة الإعمار في قطاع غزة بعد الحرب الأخيرة، والذي من المفترض أن يعيد بناء أحياء ومناطق كاملة دمرها العدوان الأخير، والعدوان الذي سبقه أحياناً. ويجب التنويه هنا، أن هذا لا يفترض أبداً شكاً في أن إعادة الأعمار مشروع ضروري وأخلاقي لا يمكن الاستغناء عنه، وواجب وطني تتحمّل مسؤوليته المؤسسات والمقاومة الفلسطينية والعربية والقيادات بأشكالها المختلفة، إلا أنها تحاول تقديم مجموعة من التساؤلات حول مصير هذا المشروع، وهواجسه.

والعودة إلى نماذج مختلفة في التاريخ الاجتماعي لمناطق فلسطينية، وغير فلسطينية، يوضح أن هذه الهواجس ليست هواجساً متخيّلة، ولكن يمكن تدعيم واقعيتها بالأمثلة السابقة نفسها، التي كان أبرزها ما حصل مثلاً في مخيم جنين، في نهاية الانتفاضة الثانية، الذي شهد إعادة إعمار واسعة، تم فيها بناء آلاف الوحدات السكنية بشكل كامل أو بشكل جزئي، وتم تغيير وإعادة بناء معظم البنية التحتية القديمة، بما يصاحب ذلك من إعادة تشكيل للفضاء الحيوي العام.

وكان الرفض الاستعماري واضحاً لأولى خطط إعادة إعمار المخيم، تتلخّص أسبابه في رفض إعادة إعمار المخيم بشكله ومساحته القديمتين، "أجبر" القائمين على المشروع على شراء مجموعة أراضٍ جديدة، وتوسيع مساحة المخيم، بما يتضمن توسيع الشوارع الضيقة التي كانت خط الممانعة الأول أمام الآليات العسكرية الإسرائيلية.

ولم يكن توسيع الشوارع بما يتلاءم مع حجم الدبابات الإسرائيلية، مشكلة الإعمار وتوسيعه الوحيدين، فلقد وقعت عملية إعادة توزيع "رأس المال المعماري" بشكل يتواطأ مع السلطات والنفوذ القديم في المخيم للأشخاص والمجموعات، وشكل بدوره نفوذاً وتراتبات جديدة، ساهم فيها هذا التوزيع.

ويبدو أن الحديث عن هواجس إعمار القطاع تبدو حساسة أكثر، بحسبان ضخامة ما تم تدميره، وضخامة مشروع إعادة البناء بالتالي، ووضع القطاع السكاني، الأكثر كثافة. ومن نموذجي، مخيم جنين ومدينة رام الله، التي تختلف الأسباب وراء تشكيلهما، يمكن طرح مجموعة من الأسئلة التي تعبّر، ولو بشكل متسرّع، عن هواجس إعادة الإعمار، فهل سيعيد مشروع إعمار غزة حالة مخيم جنين، في تشكيله بما يتلاءم مع القدرة العسكرية الإسرائيلية؟ وبما يقوّض ملامح المقاومة التي تحملها بنية غزة الحضرية؟ أو هل سيفرض رؤية الداعمين الحضرية المعولمة؟


(فلسطين)

المساهمون