أوطان ليست لنا

أوطان ليست لنا

02 أكتوبر 2018
... وما زال الترحال مستمراً (سيرغي مالغافكو/ Getty)
+ الخط -

تُوَضَّب الحقائب. عشر حقائب كبيرة تُضاف إليها خمس صغيرة. الأخيرة تُحمَل باليد، إلى داخل مقصورة الطائرة. المجموع خمس عشرة حقيبة بأحجام مختلفة. بعضها جديد وبعضها سبق أن اجتاز أجواءً وعَبَر حدوداً بريّة مرّات ومرّات، ذهاباً وإياباً، بين قارة وأخرى وبين بلد وآخر. منذ أكثر من ستّة عشر عاماً، بدأ ذلك الترحال بين بلدان ومنازل ومطارات ونقاط تفتيش... وما زال مستمراً.

اليوم، الوجهة ليست جديدة. سبق أن اختُبِرت في الماضي، على مدى سنوات. ربّما وجب التمسّك بها، في ذلك الحين. ربّما... غير أنّ الوقت ليس للعتاب ولا للتحسّر. إنّه موعد الانطلاق في ما يشبه مغامرة جديدة. تلك المغامرة، لا شكّ في أنّ الاستقرار هو هدفها. مغامرة واستقرار. مفهومان يكادان لا يلتقيان، إلا أنّ كلّ شيء يصير ممكناً، في ظروف غير اعتياديّة.

الاستقرار. استقرّ في المكان يعني تمكّن فيه واستوطنه، أي اتّخذه وطناً له. والوطن، بحسب ما تُجمِع المراجع اللغويّة، هو مكان إقامة الإنسان ومقرّه، وإليه انتماؤه، وُلِد به أو لم يولد. ويبحثون عن وطن. في البدء، كانوا مجرّد اثنَين. هو وهي. كلّ منهما من وطن أمّ مختلف. الوطن الأمّ هو الوطن الأصليّ، موضع الولادة، وطن المولد، ودائماً بحسب المراجع نفسها. كلّ واحد منهما ينتمي إلى وطن، غير أنّهما أرادا واحداً لأولادهما. وانتقلا من البقعة المأزومة التي تضمّ وطنَيهما، قاصدَين المهجر. لا هي قادرة على منح فلذات كبدها جنسيّتها، ولا جنسيّته هو تتيح لهم مستقبلاً هانئاً. هناك، في المهجر، جنسيّة الوطن الجديد سوف تؤمّن للصغار الذين أبصروا النور فيه، وكذلك لهما، استقراراً منشوداً.

المغامرة. غامر يعني جازف، وخاض المخاطر، ورمى نفسه في المجهول. هكذا تعرّف المراجع اللغويّة المغامرة. وهذا ما فعلاه عند انتقالهما بداية إلى ذلك المهجر. هما رميا نفسَيهما في المجهول. هو المجهول نفسه الذي سبق أن رمى كثيرون من مواطنيهما الأصليّين أنفسهم فيه. ذلك المجهول وعد الجميع باستقرار وحياة كريمة، وما زال. لكنّ الشعور بالغربة راح يعوّق الاستقرار المستجدّ. وحاولا البحث من جديد عن استقرار في وطن آخر. تنقّلا مع صغارهما الثلاثة من بلد إلى آخر، عبثاً. في كلّ مرّة، كان الشعور بالغربة أشدّ سطوة. ويستمرّ الترحال وتستمرّ المغامرات.




اليوم، تستعدّ العائلة للرحيل. هناك، في المهجر الذي اختاراه قبل أكثر من ستّة عشر عاماً، مستقبل للصغار. أقلّه، على المستوى الدراسيّ والمعيشيّ. ربّما يشعرون هذه المرّة بالاستقرار. اليوم، وضّبوا حقائبهم. فيها جمعوا متاعهم، بينما خلّفوا في منزلهم الذي يهجرونه بعضاً من ذواتهم. في كلّ المنازل التي شغلوها، وفي كلّ الأوطان التي أقاموا بها، خلّف هؤلاء بعضاً من ذواتهم. ويخوضون مغامرة جديدة، بحثاً عن استقرار ما... بحثاً عن وطن.

دلالات

المساهمون