الأماكن

الأماكن

06 يوليو 2018
هو مكانها... (Getty)
+ الخط -


"الأماكن كلّها مشتاقة لك.. كلّ شي حولي بيذكّرني بشي (...)". يغنّي محمد عبده "الأماكن" من كلمات الشاعر السعوديّ منصور الشادي. إنّها الأماكن، بغضّ النظر عن "المضمون العاطفيّ" لتلك الأغنية. مهلاً، العاطفة تُعَدّ ثابتاً في هذا السياق. ربّما كان المقصود من "المضمون العاطفيّ" آنفاً، ما يرتبط بحبيبَين أو عاشقَين اثنَين ليس إلا.

الأماكن ربّما تشتاق لنا، بيد أنّنا بالتأكيد نشتاق لها. وكثيرة هي تلك الأماكن أو قليلة بعد غربلة. لا شكّ في أنّ ثمّة أشخاصاً قد يرون في الأمر مبالغة ويصنّفونه في إطار كلام الأغاني المصفوف. هذا من جهة. أمّا من جهة أخرى، فلا بدّ من أنّ هؤلاء أحسّوا بدغدغة طاولت أرواحهم عندما وجدوا أنفسهم صدفة في مكان احتضنهم بطريقة أو بأخرى في زمن مضى.

وتغمر الذكريات أرواحنا، ونجد أنفسنا وقد فاجأنا الحنين. هو شعور عارم أبعد من الحنين. نحن لا نكتفي بذلك الإحساس فحسب، بل نجد أنفسنا وقد رحنا ننبش ما حفظناه في خبايانا... روائح ومشاهد وضجيج أو وشوشة وغير ذلك. ونتقصّد نبش ما حفظناه، لعلّنا نعثر على توازن نقضي أيّامنا ونحن نبحث عنه لاهثين. وتختلف الروائح. وتختلف المشاهد. ويختلف الضجيج أو الوشوشة. وتنتابنا خيبة. ونمضي باحثين عن ذلك التوازن. نبحث عن أنفسنا، تلك التي ضاعت في زحمة يوميّاتنا. ونعوّل على أماكن وأخرى. كلّ واحد منها سوف يساهم في تركيب ذلك التوازن. بعضنا لن يرى في ذلك إلا أمراً لا طائل منه.

الأمر ليس مجرّد صفّ كلام أغان عاطفيّة. علم الاجتماع يقول بأنّ المكان يساهم في منح هويّته للفرد أو لمجموعة من الأفراد، ويشدّد على ذلك. يؤكّد علم النفس الأمر ويُحدّد المنزل "مكاناً لكلّ حالاتنا". وإذ يشير إلى أنّ وظيفة المنزل الأوليّة هي إيواؤنا، يوضح أنّ هذا المنزل هو كذلك امتداد للأنا ولأجسادنا في لاوعينا.


"بهدف التجمّع وتأمين الحماية والتمايز عن الفئات الأخرى، فإنّ الأنواع الحيوانيّة كلّها في حاجة إلى أرض تجعلها تتشرّب رائحتها وعاداتها. ونحن البشر لسنا استثناءً". أمر تجزم به المحللة النفسيّة الفرنسيّة ناتالي مونان، شارحة أنّنا عند انتقالنا إلى منزل جديد، نرى أنفسنا وقد رحنا نزيل كلّ أثر لشاغليه السابقين. في سياق متّصل، يُصنّف فعل الاضطرار إلى إخلاء المنزل، دائماً، كصدمة أو رضّ. لا بدّ من أن تكون الحال كذلك. فجدران ذلك المنزل، منزلنا الذي كنّا نسكنه، هي كمثل طبقة ثانية من الجلد تغطّي أجسادنا. تلك الجدران تصوننا وتقينا.

في كلّ مرّة نجتاز عتبة باب المنزل، منزلنا، يكون الأمر أشبه بتلاقٍ مع بيئة وجوّ فريدَين بعد غياب، تلاقٍ مع مكان حيث نحن موجودون من دون تكلّف... مكان نكون فيه أنفسنا بحقّ. هذا ما يقول به علم النفس وكذلك علم الاجتماع. إلى جانب المنزل، منزلنا، ثمّة أماكن أخرى تثير فينا مشاعر تتكامل لتضمن لنا ذلك التوازن. ربّما تنتابنا خيبة... ربّما تنتابنا خيبات.

المساهمون