أهلاً بهيغل في الشام

أهلاً بهيغل في الشام

12 يونيو 2014
+ الخط -

يُحيلُنا منهجُ الجَدل الهِيغلي، في تحليل معطيات الفكر والفلسفة، والظواهر الطبيعية، إلى الثلاثية المشهورة، الأطروحة – النفي – نفي النفي، وهذا النفي الأخير، هو ما يوصلنا إلى ما يُعرف أيضاً بالتجاوز، أو التركيب، الذي يعني أطروحةً جديدةً غير تلك الأولى، فنفيٌ جديدٌ للطرح الجديد، ثم نفي نفيٍ آخر وهكذا، وبحركةٍ مستمرةٍ وعبر العلاقات المتصلة، بما يتيح تفسير تلك الظواهر والحالات المعروضة على العقل والفكر، وبما يؤدي إلى استنباط المبادئ والمُثل والقيم العليا، والتي قد يكون الخير أعلاها على ما يذهب إليه الفيلسوف، المثالي الألماني، إيمانويل كانط.
أما بالنسبة لحالنا العربي، نتساءل، هل يمكننا تطبيق القواعد الجدلية، التي اقترحها هيغل، على الثورة السورية، مثلاً، وحركة المجتمع السوري اليوم، بما يساعدنا على محاولة فهم ما الذي يجري، واستقراء ما ستؤول إليه الأحداث، وعلى أي شكلٍ ستنتهي.
الحقيقة، إن طرح هكذا تساؤل، في ظل الظروف الراهنة داخل سورية، قد يبدو من قبيل الترف الفكري، أو الاستعراض الثقافي، بما قد يصل إلى حد الفذلكة التي لا تسمح بها ظروف الزمان، ولا المكان، ولا الوقائع اليومية الدامية. مع كل ذلك، إن إعمال النظر، واستخدام الفكر ومناهجه، في محاولة تفسير، وفهم وتحليل ما يحدث، يكونان من واجب القادرين عليهما، كفرض عين، لا يسقط عن المستطيعين إليه سبيلا. هذا يكون أقل ما يمكن من مساهمة في إنجاح الثورة، ورفع الظلم، وإحقاق العدل، وإعادة إنتاج القيم، تمهيداً لتأسيس مجتمعٍ جديدٍ، وأمةٍ جديدةٍ، ودولةٍ جديدةٍ.
علينا الاعتراف بأن المجتمعات العربية، والمجتمع السوري خصوصاً، قد بقيت، لما يزيد على خمسة عقود، خارج مسار التاريخ، فقد نجحت الأنظمة الديكتاتورية العربية، ونظام البعث خصوصاً، في تحطيم المجتمعات، ومصادرة الفكر، وسحق الحريات، وإشاعة الإرهاب، وتعميم الفوضى واللاقانون. أصبحنا نعيش في حالةٍ مركزها الخواء، والهامشية، واللاعقل، واللامنطق، وكانت أداة الديكتاتوريين الأساسية في تحقيق ذلك هي العنف بشقيه، الناعم والخشن، وبكامل رمزيته. كما أغرقتنا هذه المنظومة، بمقارباتٍ همجيةٍ وبدائيةٍ، لنظرية الواقعية السياسية، بهدف التخليد في الحكم، وتوريثه للأبناء فيما بعد.
لكن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية تحديداً، قد أصابت مقولة التوريث والوحدانية الأبدية، في مقتلٍ، فالقوة، لا تساوي شيئاً أمام إرادة الشعوب، وتوقها الفطري إلى التحرر والانعتاق، والتاريخ وإن توقف لفتراتٍ عارضةٍ مؤقتة، إلا أنه لم ولن ينتهي بحالٍ من الأحوال، ما دامت الشعوب مستمرةً في الوجود.
بالعودة إلى هيغل؛ يمكننا، وبافتراض أن المرحلة السلمية كانت تشكل الأطروحة، والمقاومة العسكرية المسلحة شكلت النفي، فعلى ما تنفتح آفاق التركيب، أو التجاوز الذي سنحصل عليه، فيما لو حاولنا نفي النفي ذاك، أي نفي منطق السلاح، والنشاطات العسكرية، وإنهاءها مستقبلاً، هل يمكننا بناء مجتمعٍ ودولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ، على أنقاض الإقطاعيات العسكرية، وأشباح الإمارات الظلامية القائمة حالياً، هل سنحتاجُ إلى ديكتاتوريةٍ وطنيةٍ مؤقتة، لتحقيق ذلك.
يمكننا أيضاً، وبافتراض أن إنشاء التنسيقيات والهيئات الثورية، كانت الأطروحة، وإنشاء المجالس المحلية، كان النفي، فما الذي ستفضي إليه التركيبات والتجاوزات التالية لنفي النفي. هل هي مؤسسات حُكمٍ وإدارةٍ سياسيةٍ ومُجتمعيةٍ فاعلة، تكون نواةً للدولة السورية المرغوبة، أم سيحول تذرير وتشظية المجتمع، وتفتت البيئات المحلية، وانهيار الدولة كفكرة ومؤسسات دون ذلك.
أيضاً، إذا ما نظرنا إلى تشكيل المجلس الوطني، ككيانٍ سياسيٍ معارضٍ على أنه أطروحة، وإنشاء الائتلاف الوطني لاحقاً، نفياً لتلك الأطروحة، فهل من الممكن أن يفضي الكيان المعارض الموعود الجديد، الذي سمعنا عن قرب إطلاقه، والذي قد يمكن اعتباره تجاوزاً، إلى الوصول إلى الجسم السياسي المطلوب لقيادة الثورة، وتحقيق أهدافها، وهل سينجز هذا الكيان لاحقاً عملية وضع الأسس النظرية، والدستورية، والمؤسساتية، للدولة والمجتمع السوريين الجديدين.
قد نمتلك جواباً أو بعض جوابٍ لهذه التساؤلات، لكن علة إبقائها مفتوحةً من دون جوابٍ، هو محاولتنا تحريض جميع المعنيين على إعمال نظرهم، وإيقاد فكرهم لاجتراح أجوبةٍ مناسبةٍ لها، ولغيرها من الظواهر والتطورات والأحداث، التي تشهدها سورية اليوم، مجتمعاً، وثورةً، ونظاماً، ومنها تفاعلات الأطراف المحلية، والإقليمية، والدولية، التي قد يصح لدراستها، وتحليلها، ونقدها، واستشراف آفاقها، ومآلاتها، المنهج الجدلي، أو قد لا يصح، ويكون غيره من المناهج العلمية أصلح. أو لعلنا نكون أمام واقعٍ تنطبق عليه شروط الديالكتيك السلبي، مثلاً، وهي الحالة التي لا يتم فيها تجاوز لحظة الإثبات – النفي، إلى لحظة نفي النفي، وبالتالي يبقى الأفق مفتوحاً رهيناً للضبابية، وغير قابلٍ للتحديد الإيجابي، وأسباب تحقق ذلك متعددةٌ، فقد لا تشكل سريالية التطورات والمشاهد، وجنون القتل، وعبث اللاعقل، السائدة اليوم، إلا أرضيتها الأولى.
أخيراً، نقول إن من واجب الجميع العمل لتسخير كل الطاقات، والمعارف، والعلوم، في محاولة الوصول إلى الغايات والتطلعات النبيلة، هذا ربما يترجم كدعوة متكررة إلى إنتاج المعرفة والثقافة، إذ نشدد على مركزية المعرفة ومركزيتها، شرطاً أساسياً لتَعَريف ذواتنا، وقيامة مجتمعنا، وتأسيس دولتنا، إلا أننا نعطي أولويةً، الآن، وفي هذه المرحلة، لفكرة إنتاج الحرب، بمعناها الإيجابي طبعاً، والذي نقصد به مقاومة نظام الأسد، وأمراء الحرب، والتكفيريين، بالسلاح، وبالصمود، وبالوعي الكافي لعدم الانخداع، وبكل الوسائل المتاحة الأخرى. فشرط بناء دولتنا، وإقامة مجتمعنا، مرهونٌ أولاً وقبل أي شيءٍ آخر، بانتصارنا، وباستمرارنا على قيد الحياة.

avata
avata
علي فاروق (سورية)
علي فاروق (سورية)