12 يونيو 2014
من الذاكرة ... عن شتم " الإخوان المسلمين"

علي فاروق (سورية)
لم يكن في منطقتنا فرنٌ للخبز، ولذلك، كان علينا أن نسير مسافةً لا بأس بها إلى منطقةٍ مجاورةٍ لشرائه من فرنٍ آليٍ هناك، وأذكر أننا كنا نذهب الى شراء الخبز مشفوعين بتوصيات أمهاتنا بألا نأتي على ذكر الحكومة، أو الرئيس خصوصاً، بأي سوءٍ، لم نكن نعرف لماذا، وما كان يخطر في بالنا ذكرهم أصلاً، فلم يبلغ وعينا درجة فهم تعقيدات وإشكاليات تلك المرحلة، وهي نهاية الثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، ولم نكن ندرك ما تعنيه كلماتٌ مثل: حكومة، رئيس، مخابرات، علويون، إخوان مسلمون. واقتصر وعينا العام في حينه على أمرين: نحن عربٌ ومسلمون (ولذلك، يجب أن نتعلم الصلاة)، وأن إسرائيل وأميركا أعداؤنا.
في المنزل، والمدرسة، والشارع، لم يجرؤ أحدٌ على التحدث في أي شأنٍ عامٍ، الأجواء كلها محاطةٌ بنوعٍ من الهلع والرعب، ويبدو لي، الآن، وأنا أحاول تذكر تلك الفترة من طفولتنا، أن جميع أيام طفولتي كانت سماؤها ملبدةً بغيومٍ داكنةٍ، ولا زلت أجهل لماذا.
في المنزل، لم يكن والدي يتحدث بالسياسة، مع أنه كان ذكياً، ومثقفاً إلى حدٍ ما، وأذكر أنه كان يفضل صباحاً الاستماع إلى إذاعة لندن، بدلاً من إذاعة دمشق التي فضلتها أمي، كنا نصحو صباحاً على قرع جرس إذاعة لندن. وعندما تبدأ الأخبار، ويكون هناك خبر عن سورية، أو عن حكومتها، كنت ألتقط كلمةً، أو اثنتين، يلقيهما والدي، وهو يتناول فطوره، وتحمل في ثناياها نقداً ساخراً ولاذعاً جداً، كان والدي يمتاز بمقدرةٍ بلاغيةٍ هائلةٍ، وكان قادراً على تسفيه وتحطيم أي موقفٍ، أو نصٍ، أو شخصيةٍ، بكلمةٍ واحدةٍ فقط، ربما يعود السبب لخلفيته البدوية، حيث تشكل اللغة والسرد والتعبير أحد أهم مقومات تلك البيئة، مرةً واحدةً فقط سمعته يتفاعل مع خبرٍ ويشتم، كان ذلك في صباح شتوي، عندما أعلنت إذاعة لندن بدء الهجوم الغربي على العراق عام (1991)، أمي، أيضاً، كانت تدعو على أميركا وأعوانها بأن تدمرهم قدرة الله المنتقمة.
ذاك كان أقصى حديث في السياسة يمكن أن نشهده في حياتنا وقتها، وأذكر أنني تشجعت، مرةً، ونطقت كلمة ساخرة على خبرٍ، فما كان من والدي إلا أن توقف عن مضغه، ونظر إلي بحدةٍ، ونطق بثلاث كلماتٍ أنهت كل شيءٍ، (بلا سوالف مشلخة) هكذا قال لي في ذلك الصباح، وبالفعل توقفت (سوالفي المشلخة) تلك، على الأقل في المنزل، وحتى وفاة والدي بعد ذلك بسنواتٍ قليلةٍ.
في مطلع التسعينيات، بدأ النظام يفرج عن معتقلين من أحداث الثمانينيات الدامية، وكانوا قد اتهموا بانتمائهم للإخوان المسلمين، والمفرج عنهم لم تكن لهم أية علاقةٍ بالتنظيم. مع ذلك، اعُتقلوا وعُذبوا بوحشيةٍ أزيد من عشر سنواتٍ. ولم أكن أعرف من هم الإخوان المسلمون، وما حكايتهم، لكنني استرقت السمع مرةً لحديثٍ دار بين والدي وصديقه، كان الصديق يحكي عن تلك الفترة، وعن حافظ الأسد و"الإخوان". كان والدي صامتاً، ولم يكن مسروراً بالحديث، وأغلب ظني أن ذلك لعلمه بأنني كنت أستمع باهتمامٍ إلى ذلك الكلام الرهيب، مع أنني تعمدت التظاهر بعدم الانتباه، لكنني كنت أستشعر، بين دقيقةٍ وأخرى، نظرةً غاضبةً وخائفةً في الوقت نفسه من والدي نحوي. مع ذلك، بقيت مصراً على الاستماع للحديث، بالتوازي مع تظاهري بالانشغال باللعب، وما خلصت إليه من حديث صديق والدي أن المجرم والقاتل والمسؤول عن المجازر، إنما هو حافظ الأسد ومخابراته، وليس الإخوان المسلمون.
في أحد الأيام، خرجت عائلتنا في نزهةٍ، وفي مكان التنزه، تصادف وجود أحد المفرج عنهم من أبناء منطقتنا، تحدث أبي وأمي عنه، وعندما أشرت بإصبعي باتجاه الرجل، نهرتني أمي بخوفٍ وعصبيةٍ.
مع بدء دراستي الإعدادية، فوجئت في المدرسة بشيءٍ بدا لي مذهلاً أول مرةٍ، تمثل في شعارٍ مدوٍّ كان علينا أن نردده يومياً، ومنه عبارة: عهدنا أن نتصدى لعصابة الإخوان المسلمين العميلة. وما صدمني لم تكن ببغائية الشعار، وسطحيته، وتهافته، فكل الشعارات التي كنا نحفظها ونرددها في المدارس كانت كذلك، أدهشني جداً ذلك الشعار، لأنه، ولأول مرةٍ في حياتي، أسمع أحداً يصيح، ويجرؤ على التلفظ بكلمتي: الإخوان المسلمين، علناً، وفي مكانٍ عامٍ، لو كانت الغاية شتمهم وتحقيرهم، فقدا بدا لي ذلك أمراً مثيراً واستثنائياً، فقد كان مجرد التفكير بيننا وبين أنفسنا بتلك الكلمتين يحرض لدينا نوباتٍ من الهلع. لم نجرؤ يوماً على التلفظ باسم الإخوان المسلمين، حتى أمام أصدقائنا، أهلنا ذاتهم لم يجرأوا بذلك أمامنا، أثار ذلك الأمر التعجب والاستغراب في نفسي، كيف يجرؤ ذلك الطالب على ذكر اسمهم هكذا، وبأعلى صوته؟ وكيف يجرؤ المعلمون الذين كنت ألحظ اعتدال وقفتهم، عند بدء ترديد الشعارات، وذكر اسم "السيد الرئيس" على السماح لأنفسهم بسماع اسم: الإخوان المسلمين، وكيف يجرؤ الطلاب على ترداد اسمهم؟
مع مرور الوقت، بدأ شعوري بالدهشة والاستغراب بالتلاشي، وتحفزّت حواسي ومداركي للتفاعل مع هذا المعطى الجديد، واستغلاله، شكل الهتاف باسم الإخوان المسلمين المرعب علناً حافزاً لدي لفعل شيءٍ أنتقم به من "السيد الرئيس"، ونظامه، وشعاراته، شعرت، منذ ذلك الوقت، بشجاعةٍ كبيرةٍ، وبرغبةٍ جارفةٍ للتمرد والثورة. فكرت بما يمكن أن أفعله. وبعد مرور الوقت، فكرت، ثم قررت أن أتابع تمردي الداخلي، كلما كان ذلك ممكناً على كل ما يمثله النظام، ويرمز إليه، ولكن، هذا أيضاً وبمرور الزمن لم يعد يرضيني. وبذلك، لم يعد أمامي إلا الانتظار، على أمل حلمٍ بعيدٍ اسمه ثورة.