أنا لغتي

أنا لغتي

14 ديسمبر 2014
صورة (العربي الجديد)
+ الخط -
ما الذي اعتمل في دواخل الشاعر العبقري مفجّراً فيه ذلك الإنشاد المتعالي، ومذهلاً ذاته وسامعيه بصدى دويّ متناه: "أنا لغتي. أنا ما قالت الكلمات: كن جسدي، فكنت لنبرها جسداً. أنا ما قلت للكلمات: كوني ملتقى جسدي مع الأبدية الصحراء. كوني كي أكون كما أقول! لا أرض فوق الأرض تحملني، فيحملني كلامي، طائراً متفرعاً مني، ويبني عش رحلته أمامي في حطامي، في حطام العالم السحري من حولي".

لم يكن الذي اعتمل في ذلك الوجدان الدرويشي الملغز لحظة إلهام عابرة. كان "اكتمال الاكتمال" والوعي المكثف باللغة الأم، بالرحم الكوني الذي تخلق فيه الشاعر، وأعاد صوغه في قالب منشق عن عادي الحياة، ملتصق عوض ذلك بشقيقها السحر .. "حطام العالم السحري" الملفوف بطيّات لا تنتهي من أردية الدهشة. كأنما تتوقف الأشياء وتتضاءل الحياة ويرتبك الوجود برمته عند اللغة المكتملة والصافية، لأنها منها تنبعث جميعاً. في مقابلات عدة أخيرة وقبل إطلالة الوداع، ردّد محمود درويش أن ما كان يحلم بالوصول إلى عتبته هو "الشعر الصافي". كيف لنا أن نعرف ما كان يجول في عالم إبن اللغة وعبدها وعابدها؟ كيف "يصفو الشعر"، ويتنقّى من كل ما يتشبث به خطأ فينتقص من شاعريته، من تألقه، من تعاليه المتواصل، من التناغم الداخلي الساحر بين اختلاجات الكاتب والإنتاج المكتوب؟

قيل دوماً، وإلى درجة الملل، اللغة كائن حي. لها وفيها علامات الكينونة الكاملة: تتنفس، تتمدد، تنام، تستيقظ، تحب، وتكره. كل ذلك تبعاً لمنطق داخلي يناغم دقة اشتغال مكوناتها. الكاتب هو الذي يبعث فيها الحياة والحركة ... والصفاء. تفيق اللغة على يد كاتب ما رشيقة، رقيقة، حية، فوارة، مغناج ... تستدعي احتضانها. وتفيق على يد آخر ثقيلة، ركيكة، مملة، وخانقة ... تستدعي الفرار منها. إذا التقط كاتب ما روح لغته واصطنعها لدرجة أنه صارها، نكون ربما قد بدأنا فك اللغز الدرويشي في مسألة اللغة الصافية والشعر الصافي.

يواصل درويش علياءه المتصاعدة، منتقلاً من "أنا" الذات المعتدة بلغتها إلى "أنا" جماعية انصهرت في صحراء كان لهيبها يذيب الصخر، لكن لغتها المدهشة نصبت بيوت شعر في جهاتها الأربع، ظلت تهب ظلال الحياة وتخلق ندىً وريحان في قلب الشمس: "هذه لغتي ومعجزتي. عصا سحري. حدائق بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى، ومعدني الصقيل، ومقدس العربي في الصحراء، يعبد ما يسيل من القوافي كالنجوم على عباءته، ويعبد ما يقول، لا بد من نثر إذاً، لا بد من نثر إلهي لينتصر الرسول".

هنا تنفلت الذات اللغوية المصهورة مع الشاعر وفيه. تنطلق في فوران سماوي مهيب. تفيض بالاعتداد والتسامي المستمر على فرضية انفصال اللغة عن قائلها. يلحظ ابن اللغة وصانعها تلك العلاقة الغامضة والرهيبة بين عرب الصحراء ومعبوداتهم الشعرية. بين نجوم أبيات الشعر التي استنزلت من صحاري الكواكب، وروضت من تمردات النجوم، لترصع بها العباءات. تماهت مع ابن الصحراء وفيها تماهى. انحل وجوده في لغته وقداستها التي صنعها على يده. صارت لاته وعزاه، وصار أوزيريسها. هي بعثه وهو بعثها. لم تعد لغة كما اللغات، ولم يعد عربي الصحراء مفرداً تائهاً في بيداء لا متناهية. صار الإثنان شيئاً واحداً مُتحدياً ومتجاوزاً وطاغياً ... استلزم نصاً ونثراً إلهياً كي يتحداهما معاً، ويوقف موكب التحاقهما بالألوهة والسماء.

المساهمون